Kamis, 24 Mei 2018

ثورة القرآن الكريم على نظم السياسة الجاهلية البالية نحو تشييد القواعد الأساسية لحضارة سياسة القضاء في الدول الإسلامية في العالم الإسلامي المعاصر

نهضة العالم الإسلامي المعاصر على منهج النبوة في القضاء
ثورة القرآن الكريم على نظم السياسة الجاهلية البالية
نحو تشييد القواعد الأساسية لحضارة سياسة القضاء في الدول الإسلامية في العالم الإسلامي المعاصر
السياسة الشرعية
   هذه محاضرات في مادة السياسة الشرعية، بدأ بالحديث عن مفهومها، والموضوعات التي تشملها، وأدلة اعتبارها.
ونبدأ الآن في بيان مفهوم السياسة الشرعية، والتعريف بالسياسة الشرعية في اللغة: جاء في (المصباح المنير): ساس زيد الأمر يسوسه أي: دبره وقام بأمره. وجاء في (لسان العرب) لابن منظور الأفريقي: السَّوس: الرئاسة، يقال: ساسوهم سوسًا، وإذا رأسوا الشخص، قيل: سوسوه، وأساسوه. ونقول: ساس الأمر سياسة أي: قام به. ونقول: سوسه القوم أي: جعلوه يسوسهم. ويقال: سوس فلانٌ أمر بني فلانٍ أي: كلف سياستهم. والسياسة هي القيام على الشيء بما يصلحه.
ومن هذا يتضح أن كلمة السياسة تطلق في اللغة بإطلاقاتٍ كثيرة، ومعناها في جميع إطلاقاتها يدور على تدبير الشيء، والتصرف فيه بما يصلحه هذا هو تعريف السياسة الشرعية في اللغة.
أما تعريف السياسية الشرعية في اصطلاح الفقهاء، فللفقهاء فيه أقوال: قيل في تعريف السياسة الشرعية: هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئ -أي: دليل تفصيلي من كتابٍ، أو سنة، أو إجماع، أو قياس.
وعرفها البعض أيضا بأنها: هي ما كان فعلًا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا نزل به وحي، وهذا التعريف إنما هو موجود في كتاب (السياسة الشرعية مصدر للتقنين) للدكتور عبد الله محمد محمد القاضي، طبعة 1410 - 1989 دار الكتب الجامعية الحديثة بطنطا صـ32.
وعرف البعض أيضًا السياسة الشرعية بأنها: هي ما يراه الإمام، أو يصدره من الأحكام، والقرارات زجرًا عن فسادٍ واقع، أو وقاية من فسادٍ متوقع، أو علاجًا لوضعٍ خاص. وهذا التعريف إنما هو للدكتور يوسف القرضاوي في كتابه (السياسة الشرعية) الطبعة الأولى 1419هـ - 1989م مكتبة وهبة بمصر صـ15، وما بعدها.
وأيضًا عرف البعض السياسة الشرعية بأنها: تدبير شئون الدولة الإسلامية التي لم يرد بحكمها نص صريح، أو التي من شأنها أن تتغير، وتتبدل بما فيه مصلحة الأمة، ويتفق مع أحكام الشريعة، وأصولها العامة، وهذا التعريف إنما هو للدكتور محمود الصاوي في كتابه (نظام الدولة في الإسلام) الطبعة الأولى 1418 - 1998 دار الهداية بمصر صـ39.


شروط العمل بأحكام السياسة الشرعية
ونستخلص من هذه التعريفات المختلفة للسياسة الشرعية أن هذا معناه: أن عدم دلالة شيء من النصوص الواردة في الكتاب والسنة على أحكام السياسة الشرعية تفصيلًا لا يضر، ولا يمنع من أن نصفها من بوصف السياسة الشرعية، أما الذي يضر، ويمنع من ذلك أن تكون تلك الأحكام مخالفة مخالفة حقيقيةً لنص من النصوص التفصيلية، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، هذه النصوص التفصيلية التي أريد بها تشريع عام للناس في كل زمان، وفي كل مكان.
فمتى سلمت السياسة الشرعية، أو أحكام السياسة الشرعية من هذه المخالفة للنصوص التفصيلية، وكانت متمشية مع روح الشريعة، ومبادئها العامة؛ كانت نظامًًا إسلاميًّا، وسياسة شرعية نأخذ بها، وبأحكامها، ولذلك يقول ابن عقيل الحنبلي، يقول: السياسية ما كان فعلًا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا نزل به وحي -كما قلنا قبل ذلك.
ومن أجل ذلك كان من المغالطة، أو الغلط ما يزعم بعض المخالفين من أنه لا سياسة إلا ما وافق الشرع، فهذا القول فيه غلط وتغليط، وهو: لا سياسة إلا ما وافق الشرع فيه غلط وتغليط إن أريد به أنه لا يعتبر من الشريعة الإسلامية شيء من الأحكام الجزئية التي يتحقق بها مصلحة، أو تندفع بها مفسدة، إلا إذا نطق به الشرع، ودلت عليه -على اليقين- نصوص من الكتاب، أو السنة، هذا يكون مرفوضًًا.
أما إذا كان معنى لا سياسة إلا ما وافق الشرع إذا كان معناها: أنه لا سياسة: أنه الموافقة للشرع أن تكون تلك الأحكام الجزئية متفقة مع روح الشريعة، ومبادئها الكلية، وأن تكون مع ذلك غير مناقضة لنصٍ من نصوصها التفصيلية، التي يراد بها التشريع العام؛ فالقول بأنه لا سياسة إلا ما وافق الشرع قول صحيح ومستقيم، تؤيده الشريعة نفسها، ويشهد له عمل الصحابة، والخلفاء الراشدين، والأئمة المجتهدين، وهذه الأشياء موجودة، أو الكلام الذي تحدثت عنه موجود في كتاب (السياسة الشرعية والفقه الإسلامي) للشيخ عبد الرحمن تاج، الطبعة الأولى 1373هـ - 1953م دار التأليف مصر صـ11.
إن خلاصة القول في هذا الشأن أن الحكم الذي تقتضيه حاجة الأمة يكون سياسة شرعية معتبرة إذا توافر فيه أمران:
الأمر الأول: أن يكون متفقًا مع روح الشريعة، معتمدًا على قواعدها الكلية، ومبادئها الأساسية.
الأمر الثاني: ألا يناقض مناقضة حقيقية دليلًا من أدلة الشريعة التفصيلية التي نقصد بها الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وهذه الأدلة التفصيلية هي التي ثبتت شريعة عامة للناس في جميع الأزمان، وفي جميع الأحوال.
وعلى ذلك إذا لم يكن هناك دليل تفصيلي من كتابٍ، أو سنة، أو إجماعٍ، أو قياس قد دل على خلاف حكم السياسة، أو كان هناك مخالفة، ولكن تلك المخالفة ظاهرية، وليست حقيقية، أو علم أن ما دل عليه الدليل التفصيلي لم يقصد ليكون شريعة عامة، وإنما كان لحكمة خاصة، وسبب لا وجود له في غير واقعة الحكم؛ عندئذ لا تكون مخالفة حكم السياسة مخالفة لأدلة الشرع وأحكام الإسلام.
وبالتطبيق على ما ذكرناه فإنه لا يعد مخالفةً شرعية، وإنما يعتبر من أحكام السياسة الشرعية الأمور التالية:
الأمر الأول: ما فعله سيدنا أبو بكرٍ الصديق رضوان الله -تبارك وتعالى- عليه من جمع القرآن في مصحفٍ واحد؛ فسيدنا أبو بكر -رضوان الله تبارك وتعالى- عليه رأى أن المصلحة تكمن في أن يجمع القرآن في مصحفٍ واحد، وفعل ذلك لأن مصلحة الناس، ومصلحة المسلمين تقتضي ذلك، والمصلحة إنما تدخل في باب السياسة الشرعية.
وأيضًا الأمر الثاني: ما أنشأه عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- من الدواوين، والدواوين: تشبه الآن المكاتب الحكومية التي تدون فيها أسماء الموظفين، ورواتبهم، وغير ذلك من الأمور التي تتصل بالجهاز الإداري، أنشأه سيدنا عمر بن الخطاب، ولم يكون موجودًًا أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أيام سيدنا أبو بكرٍ الصديق -رضي الله عنه وأرضاه- ومع ذلك أنشأه؛ لأن مصلحة المسلمين تقتضي ذلك، وهذا يعتبر حكمًًا من أحكام السياسة الشرعية، وكذلك ما فرضه من وظيفة الخراج -وهي الضريبة على رقاب الأرض- هذا أيضًًا فرضه سيدنا عمر بن الخطاب، ولم يكن ذلك موجودًًا أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أيام سيدنا أبي بكر، وإنما أنشأه سيدنا عمر؛ لأن مصلحة المسلمين تقتضي ذلك، ولم ينكر عليه أحد؛ ولذلك كان ذلك من باب السياسة الشرعية.
الأمر الثالث: كان تعدد المصاحف في صدر الإسلام أمرًًا عاديًّا، إذ كان من الجائز أن يكتب كل صحابيٍ مصحفًا بالحرف الذي سمعه به من النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما انتفت المصلحة؛ بسبب الاختلاف في القراءة؛ أمر سيدنا عثمان بن عفان بإبقاء مصحفٍ واحد، وحرق باقي المصاحف. لماذا فعل ذلك سيدنا عثمان بن عفان؟ فعل ذلك من أجل مصلحة المسلمين عندما وجد أن هناك بعض الخلافات سوف تنشأ بين المسلمين بسبب هذه القراءات المتعددة؛ ولذلك أراد أن يقضي على هذه الفتنة في مهدها؛ ولذلك أبقى مصحفًا واحدا، وحرق ما عداه.
الذي جعله يفعل ذلك إنما هو نوع من السياسة الشرعية -أي: من أجل المحافظة على مصلحة المسلمين.
الأمر الآخر: الذي يعتبر نوعًًا من السياسة الشرعية -ولا يعد مخالفة لنصوص الكتاب والسنة- ما فعله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من حرمان المؤلفة قلوبهم من سهم الصدقات -وإن كان هذا السهم قد قرر لهم في القرآن الكريم صراحة بقول الله -تبارك تعالى-: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} (التوبة: الآية: 60).
نقول: على الرغم من وجود هذا النص الصريح بأنه هناك سهم للمؤلفة قلوبهم؛ فإن سيدنا عمر بن الخطاب لم يأخذ بظاهر اللفظ، ولم يقف عند حرفية النص، بل راعى سر النص، وحكم روح النص، وقرر أن الآية التي فرضت نصيبًا لهؤلاء المؤلفة لم تفعل ذلك؛ ليتخذ شريعة عامة يعمل بها في كل حالٍ، وزمان، بل إنما كان لحكمة خاصة، وسبب لم يعد قائمًا بعد، وأرشد إلى هذا بقوله: إن الله قد أعز الإسلام وأغنى عنهم - يعني: أغنى الإسلام عن هؤلاء المؤلفة قلوبهم- فعمر -رضي الله عنه- رأى أن سهم المؤلفة قلوبهم قد أوجبه الله تعالى لحاجة المسلمين إلى من يعضدهم، وينصرهم، أو لا يؤلب عليهم القبائل؛ فإذا صار المسلمون في قوة، وعزة، وزال المعنى الذي من أجله وجب ذلك السهم؛ كان للإمام أن يصرفه عن أولئك المؤلفة إلى ما هو أجدى على المسلمين وأنفع.
وهذا الكلام موجود في كتاب الشيخ عبد الرحمن تاج في السياسية الشرعية، وليس معنى هذا إبطال سهم المؤلفة رأسًًا، بل إن أمره يدور مع ذلك السبب وجودًا وعدمًا. بمعنى: أن سهم المؤلفة قلوبهم لم يرفع على الإطلاق، ولكن ذلك يتوقف على السبب الذي شرع من أجله؛ لقد شرع من أجل أنه كان بالمسلمين ضعف، وكانوا في حاجة إلى من يتألفونهم؛ حتى يقفوا بجانبهم، ولا يؤلبون القبائل عليهم.
لكن إذا أصبح هذا السبب غير موجودٍ، عندما أصبح بالمسلمين قوة؛ ففي هذه الحالة لم يعد السبب موجودا، وبالتالي فلا ينطبق الحكم فالحكم يدور مع علته، وجودًا وعدمًا، حتى إذا تجددت للمسلمين حاجة إلى التأليف -كما كانت الحاجة إلى ذلك أول الأمر- صح للإمام أن يصرف للمؤلفة على حسب ما يرى من المصلحة العامة.
جاء في (أحكام القرآن) لابن العربي في تفسير آية الصدقات يقول: اختلف في بقاء المؤلفة قلوبهم، فمنهم من قال: هم زائلون -يعني: لم يعد يأخذون من الصدقات، وليس لهم سهم- قاله جماعة، وأخذ به مالك -رضي الله عنه- ومنهم من قال: هم باقون لأن الإمام ربما احتاج أن يستألف على الإسلام، وقد قطعهم عمر لما رأي إعزاز الدين، والذي عندي -وهذا الكلام لابن العربي- يقول: والذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا - يعني: لا يعطون سهمًًا من الزكاة- وإن احتيج إليهم أعطوا سهم المؤلفة قلوبهم، كما كان يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم.
وهذا الكلام منقول من ابن العربي (أحكام القرآن) لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي الطبعة الأولى دار الكتب العلمية بيروت الجزء الثاني صـ530.
بل قال البعض: إن إعطاء المؤلفة قلوبهم له موضعه الآن؛ فإن بعض الناس يدخل الإسلام؛ فينقطع عن أهله، وعن قومه، وقد يكون ذا عملٍ؛ فيفصل من عمله؛ فمن حق هؤلاء أن يصرف لهم من الزكاة من سهم المؤلفة قلوبهم؛ تثبيتًا لإيمانهم، ومنعًا لهم من أن يفتنوا في دينهم تلك الفتنة المادية، وهذا الرأي قاله الدكتور عبد الخالق النواوي في كتابه (النظام المالي في الإسلام) الطبعة الأولى 1971م مكتبة الأنجلو المصرية صـ180.
أيضًًا من الأمور التي لا تعارض فيها بين النصوص الشرعية -وأخذ فيها بأحكام السياسة الشرعية- أقول: ليس من المخالفة لنصوص الشريعة ما فعله سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ما فعله بضالة الإبل إذ أمر بتعريفها؛ فإن أدركها صاحبها أخذها، وإن لم يدركها؛ بيعت، وحفظ ثمنها. فهو -رضي الله عنه- لم يسر على ما كان عليه العمل من قبل أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- وأيام أبي بكرٍ، وأيام عثمان، كانت الإبل الضالة تترك مرسلة لا يمسها أحد؛ حتى يعثر عليها صاحبها، وسيدنا عثمان لم يقف عند حرفية النص الذي روي عن زيد بن خالد الجهني قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأله عن اللقطة فقال -صلى الله عليه وسلم- ((اعرف عفاصهًا ووكاءها ثم عرفها سنة؛ فإن جاء صاحبها؛ وإلا فشأنك بها)) قال الرجل: فضالة الغنم يا رسول الله قال -صلى الله عليه وسلم-: ((هي لك، أو لأخيك، أو للذئب)) يعني: إن لم تأخذها أنت؛ كاد أن يأخذها الذئب، معنى ذلك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره بأن يأخذها ويعرفها سنة، قال الرجل: فضالة الإبل يا رسول الله، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر؛ حتى يلقاها ربها)).
ففي ضالة الإبل بين النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الرجل أن الإبل لا تؤخذ، ولا تلتقط، بل ينبغي أن تترك في مكانها؛ حتى يأتي إليها صاحبها؛ لأنه لا خوف على الإبل؛ معها الماء، وأيضا الغذاء؛ ولذلك لا نخاف عليها، ومنعه النبي -صلى الله عليه وسلم- من التقاط الإبل -كما قلنا- سار الأمر على ذلك في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي عهد أبي بكرٍ، وفي عهد عمر -رضوان الله على الجميع- لكن سيدنا عثمان بن عفان لم يقف على حرفية هذا النص، بل خالفه مخالفة ظاهرية؛ لأنه رأي أن الحال قد تبدل، وأن الحديث ورد في عهدٍ ما كان يخشى فيه على ضالة الإبل أن تضيع، وتمتد إليه الأيدي؛ فلما رأى هذه الأيدي قد امتدت إليها؛ نظرًًا لضعف الوازع الديني عند الناس؛ أمر -رضي الله عنه- بجمعها والتقاطها، وبيعها؛ ليحفظ ثمنها لأصحابها، أو ينتفع بهذا الثمن في المصالح العامة للمسلمين -إن لم يظهر لها صاحب.
فعثمان -رضي الله عنه- إذا كان قد خالف في الظاهر هذا الحديث؛ فهو في الواقع، وباطن الأمر عامل بهذا الحديث، ومتمسك بروحه من حيث إن ذلك العارض الذي خاف معه على الإبل الضالة قد اختلف به الأمر، ولم تعد الحالة الثانية من جنس الحالة التي ورد فيها الحديث - بمعنى: أنه كانت الإبل لا يخاف عليها في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي عهد سيدنا عمر؛ لأن الناس كانوا يخافون الله -تبارك وتعالى- وكان الوازع الديني متوفرًا. أما وقد بعد الناس عن الدين، وأصبح هناك ضعف في الوازع الديني؛ فرأى سيدنا عثمان بن عفان أن يخالف الحكم الذي كان معمولًا به، والذي، ورد به الحديث، وهذه المخالفة لا تتصادم مع المبادئ العامة في الشريعة التي جاءت من أجل المحافظة على أموال الناس إذ إن حفظ المال إنما هو من الضروريات الخمس التي جاءت الشرائع جميعها من أجل المحافظة عليها وهي حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ المال، وحفظ العرض.
فسيدنا عثمان بن عفان عندما خرج على أحكام هذا النص، أو على هذا الحكم الذي ورد في الحديث، إنما راعى ذلك مصلحة المسلمين، وهذا ما تقضي به السياسة الشرعية.
والخلاصة: أنه لا يصح في تصرفٍ من التصرفات، أو حكمٍ من الأحكام التي تسن لتحقيق مصلحةٍ عامة أنه يقال: أنه مناقض للشريعة؛ بناءً على ما يُرى فيه من مخالفة ظاهرية لدليلٍ من الأدلة، بل يجب تفهم هذه الأدلة، وتعرف روحها، والكشف عن مقاصدها، وأسرار التشريع فيها، والتفرقة بين ما ورد على سببٍ خاص، وما هو من التشريع العام الذي لا يختلف، ولا يتبدل؛ فإن مخالفة النوع الثاني هي الضارة المانعة من دخول أحكام السياسة في محيط شريعة الإسلام.
وهكذا تبين لنا من فعل سيدنا عمر، وفعل سيدنا عثمان أنهم خرجوا عن الأحكام المنصوص عليها، لكن هذا خروج ناتج عن فهمهم للنصوص، وناتج عن فهمهم لروح هذه النصوص، وسر التشريع في هذه النصوص؛ ولذلك جاء في باب السياسة الشرعية التي يقصد بها تحقيق مصلحة المسلمين في كل زمان، وفي كل مكان؛ ولذلك لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.
ومما تجب ملاحظته هنا أنه إنما وصفت هذه السياسية بالشرعية؛ لأن اجتهاد الحاكم فيما جد من وقائع، وأحداثٍ، وما يدخل في مجال علم السياسة الشرعية لم يبنى على الهوى والتشهي، وإنما على مبادئ وقواعد معتبرة شرعًًا، وهذه الأشياء ينظر إليها في (السياسة الشرعية للدكتور عبد الله محمد محمد القاضي صـ36، والشيخ عبد الرحمن تاج صـ18، وما بعدها).
يقول الدكتور يوسف القرضاوي في هذا الشأن: إن السياسة الشرعية هي السياسة القائمة على سياسة الشرع، وأحكامه، وتوجيهاته، فليس كل سياسة نحكم عليها بأنها شرعية، فكثيرٌ من السياسات تعادي الشرع، وتمضي في طريقها وفقًًا لتصورات أصحابها وأهوائهم، وهذا و (السياسة الشرعية للدكتور يوسف القرضاوي صـ27) فيه مزيد من التفصيل.

Minggu, 13 Mei 2018

نهضة العالم الإسلامي المعاصر على منهج النبوة الفرد المسلم إزاء مشكلة الصراع في الدوائر المختصة؛ دائرة الأفكار ودائرة الصلات الاجتماعية والدائرة الشخصية


نهضة العالم الإسلامي المعاصر على منهج النبوة
الفرد المسلم إزاء مشكلة الصراع في الدوائر المختصة؛
دائرة الأفكار ودائرة الصلات الاجتماعية والدائرة الشخصية

إن مشكلة الفرد المسلم بالنسبة للصراع الفكري، هي أن سلوكه يصبح في حكم الفعل الشرطي كما يحدده بافلوف، أي إنه لا يستطيع توجيه فكره وعمله باختياره طبقاً لمقاييس يحددها عقله ويعيها ضميره، والخطة التي يطبقها الاستعمار تهدف إلى هذه النتيجة النفسية عن طريق بافلوف.
وهذا السلوك الشرطي ينتج عند المسلم- بصفة طبيعية- من جراء الدوافع المتعلقة بغريزة الدفاع عن النفس، وهي الدوافع التي انطلقت منذ الهجوم الاستعماري، في غرة القرن الماضي.
كما ينتج أيضاً- بصفة صناعية- من الإيحاءات التي تسلطها على مشاعره، ومن وقت إلى آخر المختبرات المختصة، كي ترفع توتر طاقات الدفاع عن النفس فوق الدرجة اللائقة، حتى يكون الفرد في حالة توتر شاذة.
ويمكن أن نقول دون تردد، إن هذه الدوافع المنطلقة في حالة غير عادية، وهذه الإيحاءات السلبية هي التي جعلت من المسلم- فيما يظهر- منبوذ القرن العشرين، أي الشخص الذي يعيش على هامش المجتمع العالمي المعاصر.
ومما يلاحظ بشأنه فعلاً حينما نراقب سلوكه في المناطق الخارجية عن دار الإسلام القائمة على حدوده، أي في مناطق الاتصال بعالم الآخرين، فإننا نجده يسلك غالباً- إن لم نقل دائماً- مسلك المتهم أو المتهم بالنسبة للآخرين، أي مسلك الفرد الذي يعيش منبوذاً في المجتمع العالمي في القرن العشرين.
وهذه الحالة تلقي ثقلاً على مصيره، في الوقت الذي يتقرر فيه مصير العالم بإجماع الإنسانية.
وإنه لمن لغو الحديث أن نقول إن الاستعمار يعلم هذا الوضع الشاذ في سلوكنا، ويرى فيه أحسن مشجع لعزلنا عن المجتمع العام، كما يعزل مكافح الصراع الفكري عن المجتمع الخاص، إذ يعزلنا فعلاً عن عالم نتهمه ويتهمنا، ويملأ أبصارنا فيه بالأشباح التي يزيد تأثيرها في توترنا، فوق درجة مجرد الدفاع عن النفس، بينما يزيد المنديل الأحمر في فزعنا من إبليس.
وهكذا تستطيع المختبرات المختصة أن تصرف كل إمكاناتنا الفكرية والمادية إلى معارك وهمية، فنسمع فيها قعقعة السلاح ودوي الحرب، ولكنا نتصارع فيها مع أشباح تحركها أمام أبصارنا المسحورة يد خفية ماهرة.
فحينما تصعد صرخة الانتصار في الفضاء، فإن ذلك يعني أن شبحاً قد اختفى عن المسرح حتى يتيح لنا الشعور بالانتصار عليه.
والتاريخ الإسلامي الحديث لا يخلو من هذه المعارك الوهمية، التي ننتصر فيها على الأشباح، كتلك المعركة التي خاضها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ضد أرنست رينان وجبرايل هنوتو.
ويتبين من خلال بعض الموازنات الحديثة، أن عهد المعارك الوهمية ضد الأشباح لم ينقض في العالم الإسلامي، كما رأينا ذلك سنة 1948 حينما خسرنا معركة وهمية ضد شبح اسمه إسائيل، كان يحركه أمام أبصارنا (المسحورة) ذلك (الحاوي) الماهر، المستر تشرشل وتلميذه الشاطر ترومان.
أو بكلمة واحدة، إننا لا زلنا مستعدين لنصرف من الوقت والمال والفكر دون جدوى.
ويجب أن نضيف إلى هذا أنه كلما وضعنا أنفسنا في فصل كهذا، فإن الاستعمار سوف يكلف الاختصاصيين في لعبة الظل، ليصور لنا معركة خيالية تصرف المسؤولين في البلاد الإسلامية عن المشاكل الحقيقية.
وهذا هو ما نشعر به أولاً، إزاء بعض المشاريع ذات الشأن، حينما يحاول من يقوم بها، أن يجند الأفكار والأقلام والأموال للدفاع عن الإسلام من هجمات المستشرقين.
فإذا بالاستعمار يبدي ارتياحه لمثل هذه المشاريع حينما يأتيه نبؤها، إن لم نقل إنه أوحى من بعيد بفكرتها، لأنها سوف تصرف الأموال والأقلام والأفكار عن الأشياء الجدية.
كما نشعر أيضاً أنه سوف يبدي قلقه، لو أن أحداً انفلت من تأثير سحره، وحاول أن يقول إن المشكلة ليست في الدفاع عن الإسلام، الذي يجد في جوهره حصانته من عطاء الله إليه، ولكن في تعليم المسلمين كيفية الدفاع عن أنفسهم بما في الإسلام من وسائل الدفاع.
فالاستعمار يغضب حينما يتوقع بأن المشكلة سوف توضع هكذا، إذ بذلك سوف يفلت من يده زمام الأمور، وأن الناس سوف ينتهون من الحديث عن عورته، هل هو امرأة أم رجل، وأن القضية سوف تخرج من عالم الميتافيزيقا والظلام لتدخل عالم الجد، وتصبح قضية مطروحة لعلم النفس والاجتماع، لتدرس في ضوئها الشروط التي تشجع الاستعمار أو تنمي القابلية للاستعمار، وها نحن أولاء في صميم موضوع هذا الفصل.
إنه لمن ترف القول إذا قلنا إن كل ما يحدث اضطراباً في خطة الاستعمار المطبقة، أو يحدث أثراً يناقض السلوك الشرطي، الذي أصبحت أفكارنا وأفعالنا خاضعة له، بمقتضى تلك الخطة، قد يصبح موضع كل اهتهام من طرف الاستعمار.
وإنني لا أشك في أن ما كتبته في محاولة سابقة عن التجربة التي تتعلق بالعروة الوثقى، لكي أطلع بعض الطلبة المتصلين بي على أسلوب الصراع الفكري في البلاد المستعمرة قد بلغ الدوائر المختصة، إذ تناولته الأيدي منذ سنتين داخل الجمهورية العربية المتحدة وخارجها، حتى إن بعض الطلبة وزعوا منه عدداً من النسخ طبعوها على حسابهم بالآلة الكاتبة الكبيرة (1).
__________
(1) نشير إلى التوزيع الذي قام به بعض أبنائي الطلبة بليبيا.

ويكون من العبث ومن جهل أسلوب الصراع الفكري إن لم نقدر هذا.
ولكن هذا التقدير يحتمل نتائج منطقية لا سبيل لأن نقصيها عن الاعتبار. وهي أن الدوائر المختصة لا يمكنها أن تقف عند حد الاطلاع عندما يبلغها ما كتب في الموضوع منذ سنتين.
وإذا قدرنا هذا كما يجب، فما النتيجة العلمية بالنسبة إلى خطة الاستعمار في مواصلة الصراع؟
إن أقل ما يمكن أن نتصوره هو أن تلك الدوائر المختصة، لابد أن تتقبل الملاحظات المسجلة في الخطوط الذي وزعت منه بعض النسخ في البلاد العربية، بوصفها نقداً قد يفيدها في تعديل الخطة، إذا ما اقتضت الظروف ذلك، وإننا نكون قد اتهمنا الاستعمار بما ليس فيه، إذا قدرنا، حينما يشعر بضعف في خطته، أو بحاجة إلى تعديلها، أنه لا يسارع إلى تدارك الضعف وإلى تصحيح الخطأ في خطته.
والحق إنه ليس للقيادة الاستعمارية في بنائها الفكري، تلك الحواجز التي نراها تكف عملية التكيف عند قيادتنا.
وإذن فماذا يستنتج من هذا كله؟
إن الدوائر المختصة التي ركبت الجهاز الذي وصفناه في الفصل السابق، وأطلقنا عليه مرآة الكف ومرآة الحرمان، لم تشعر بالحاجة إلى تغييره تغييراً كلياً، وإنما رأت أن تعديله قد يكون مجدياً لسايرة ظروف جديدة.
وربما أن هؤلاء الاختصاصيين استفادوا من ملاحظاتي، أكثر مما استفاد منها الطلبة الذين أردت اطلاعهم عليها، وليس في ذلك أية غرابة.
فكان إذن على أولئك الاختصاصيين تعديل الجهاز، أو بالضبط تحسينه من الناحية الفنية ومن ناحية الوسائل، بأن تكون الخطة معززة هذه المرة، بالوسائل الكافية وبالكفاءات اللازمة، وبالآلات البشرية ( Robots)  التي تنجز الأعمال حينما يوضع في ضميرها بعض نقود كما توضع في صندوق الصدقات.
فالتركيب الجديد يتجاوب أولاً مع الضرورة التي تنتج عامة، من أن كل فخ عرف مكانه يصبح دون جدوى، أو بالتعبير العسكري: من أن كل جهاز يقع تصميمه في يد العدو لايبقى صالحاً للاستعمال ضده.
فكان من الضروري إذن- ضرورة فنية- تعديل مرآة الكف التي وصفناها في الفصل الأخير لأن هذا الوصف ذاته كشف سره منذ سنتين.
ولا شك أن هناك أشياء أخرى تؤيد هذه الضرورة، أشياء ناتجة عن الظروف الجديدة الخاصة بالبلاد الإسلامية والعربية، وعن الطور الجديد الذي يمر به الصراع الفكري في العالم عامة، وخاصة في البلاد التي لا زالت في المعركة التحررية.
فيجب علينا إذن أن نوازن بين الجهاز الجديد والقديم من جهة جوانب الضعف فيه كي ندرك التحسين الذي أتى به الجديد.
لقد ذكرنا كيف كان التركيب الأول يعرض اسم مؤلف لانعكاسات المرآة (بوصفه فرنسياً اعتنق الإسلام)، يعرضه لها بصفة ثنائية، بما أنه كان يقحمه بين اسمين آخرين تلقي عليه تلك الانعكاسات، أي أن الاسم القصود لم يكن في هذا التركيب ينتج مباشرة الإيحاءات السلبية، وإنما كان يتلقاها من الخارج ويعكسها فقط.
وكان هذا جانب ضعف في الجهاز، بل إن ما يزيد في هذا الضعف هو أن أجزاء التركيب كلها ظاهرة مرئية، لأنها كانت مكتوبة على صفحة من صفحات (العروة الوثقى).
وهكذا تستطيع المختبرات المختصة أن تصرف كل إمكاناتنا الفكرية والمادية إلى معارك وهمية، فنسمع فيها قعقعة السلاح ودوي الحرب، ولكنا نتصارع فيها مع أشباح تحركها أمام أبصارنا المسحورة يد خفية ماهرة.
فحينما تصعد صرخة الانتصار في الفضاء، فإن ذلك يعني أن شبحاً قد اختفى عن المسرح حتى يتيح لنا الشعور بالانتصار عليه.
والتاريخ الإسلامي الحديث لا يخلو من هذه المعارك الوهمية، التي ننتصر فيها على الأشباح، كتلك المعركة التي خاضها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ضد أرنست رينان وجبرايل هنوتو.
ويتبين من خلال بعض الموازنات الحديثة، أن عهد المعارك الوهمية ضد الأشباح لم ينقض في العالم الإسلامي، كما رأينا ذلك سنة 1948 حينما خسرنا معركة وهمية ضد شبح اسمه إسائيل، كان يحركه أمام أبصارنا (المسحورة) ذلك (الحاوي) الماهر، المستر تشرشل وتلميذه الشاطر ترومان.
أو بكلمة واحدة، إننا لا زلنا مستعدين لنصرف من الوقت والمال والفكر دون جدوى.
ويجب أن نضيف إلى هذا أنه كلما وضعنا أنفسنا في فصل كهذا، فإن الاستعمار سوف يكلف الاختصاصيين في لعبة الظل، ليصور لنا معركة خيالية تصرف المسؤولين في البلاد الإسلامية عن المشاكل الحقيقية.
وهذا هو ما نشعر به أولاً، إزاء بعض المشاريع ذات الشأن، حينما يحاول من يقوم بها، أن يجند الأفكار والأقلام والأموال للدفاع عن الإسلام من هجمات المستشرقين.
وإذا قدرنا هذا كما يجب، فما النتيجة العلمية بالنسبة إلى خطة الاستعمار في مواصلة الصراع؟
إن أقل ما يمكن أن نتصوره هو أن تلك الدوائر المختصة، لابد أن تتقبل الملاحظات المسجلة في الخطوط الذي وزعت منه بعض النسخ في البلاد العربية، بوصفها نقداً قد يفيدها في تعديل الخطة، إذا ما اقتضت الظروف ذلك، وإننا نكون قد اتهمنا الاستعمار بما ليس فيه، إذا قدرنا، حينما يشعر بضعف في خطته، أو بحاجة إلى تعديلها، أنه لا يسارع إلى تدارك الضعف وإلى تصحيح الخطأ في خطته.
والحق إنه ليس للقيادة الاستعمارية في بنائها الفكري، تلك الحواجز التي نراها تكف عملية التكيف عند قيادتنا.
وإذن فماذا يستنتج من هذا كله؟
إن الدوائر المختصة التي ركبت الجهاز الذي وصفناه في الفصل السابق، وأطلقنا عليه مرآة الكف ومرآة الحرمان، لم تشعر بالحاجة إلى تغييره تغييراً كلياً، وإنما رأت أن تعديله قد يكون مجدياً لسايرة ظروف جديدة.
وربما أن هؤلاء الاختصاصيين استفادوا من ملاحظاتي، أكثر مما استفاد منها الطلبة الذين أردت اطلاعهم عليها، وليس في ذلك أية غرابة.
فكان إذن على أولئك الاختصاصيين تعديل الجهاز، أو بالضبط تحسينه من الناحية الفنية ومن ناحية الوسائل، بأن تكون الخطة معززة هذه المرة، بالوسائل الكافية وبالكفاءات اللازمة، وبالآلات البشرية ( Robots)  التي تنجز الأعمال حينما يوضع في ضميرها بعض نقود كما توضع في صندوق الصدقات.
فالتركيب الجديد يتجاوب أولاً مع الضرورة التي تنتج عامة، من أن كل فخ عرف مكانه يصبح دون جدوى، أو بالتعبير العسكري: من أن كل جهاز يقع تصميمه في يد العدو لايبقى صالحاً للاستعمال ضده.
فكان من الضروري إذن- ضرورة فنية- تعديل مرآة الكف التي وصفناها في الفصل الأخير لأن هذا الوصف ذاته كشف سره منذ سنتين.
فكان من الضروري إذن- ضرورة فنية- تعديل مرآة الكف التي وصفناها في الفصل الأخير لأن هذا الوصف ذاته كشف سره منذ سنتين.
ولا شك أن هناك أشياء أخرى تؤيد هذه الضرورة، أشياء ناتجة عن الظروف الجديدة الخاصة بالبلاد الإسلامية والعربية، وعن الطور الجديد الذي يمر به الصراع الفكري في العالم عامة، وخاصة في البلاد التي لا زالت في المعركة التحررية.
فيجب علينا إذن أن نوازن بين الجهاز الجديد والقديم من جهة جوانب الضعف فيه كي ندرك التحسين الذي أتى به الجديد.
لقد ذكرنا كيف كان التركيب الأول يعرض اسم مؤلف لانعكاسات المرآة (بوصفه فرنسياً اعتنق الإسلام)، يعرضه لها بصفة ثنائية، بما أنه كان يقحمه بين اسمين آخرين تلقي عليه تلك الانعكاسات، أي أن الاسم القصود لم يكن في هذا التركيب ينتج مباشرة الإيحاءات السلبية، وإنما كان يتلقاها من الخارج ويعكسها فقط.
وكان هذا جانب ضعف في الجهاز، بل إن ما يزيد في هذا الضعف هو أن أجزاء التركيب كلها ظاهرة مرئية، لأنها كانت مكتوبة على صفحة من صفحات (العروة الوثقى).
وبعبارة أخرى، إنه كان تركيباً فجاً بدائياً.
فكان إذن من الحكمة أن يفكر يوماً ما الهتمون بالصراع الفكري، في تركيب جهاز جديد تكون أجزاؤه غير ظاهرة، وغير ظاهرة خاصة إلى الشخص المقصود، حتى تؤدي المرآة مفعولها دون أن يشعر بذلك.
والتحسين المنشود الذي أتى به الجهاز الجديد، هو بالضبط أنه لا يراه إلا من قدّر له، عن قصد أن يراه، أو بتعبير مصطلحنا: لا يراه إلا من هو معد من أجله، ليعكس إلى نظره وشعوره خاصة تلك الإيحاءات التي من شأنها أن تجعله في حالة (السلوك المشروط)، إزاء الأفكار المقصودة من وراء هذا كله.
فميزة التركيب الجديد هو أنه يمكنه أن يلفت النظر إلى كاتب معين، دون أن يشعر هذا بأنه أصبح يشع إيحاءات، ويعكس ردود أفعال شرطية موجهة ضد أفكاره ذاتها.
فهذه المرة لا يمكن لهذا المؤلف أن يتفطن للشبك الذي نصب لأفكاره، لأنه نصب وراء ظهره، وبعيداً عن نظره، فهو عبارة عما يسمى (لعب صور الظل)، أي تلك الصور التي يمكن للاعب ماهر أن يصورها من ظل يديه وأصابعه، بوصفها قصة يراها الناظر على الحائط، ويمكن أن يزيد اللاعب الماهر في إعجاب ذلك الناظر، إذا كان عنده الصوت المناسب مثل لاعب (جراجوز)، ليعقب على الصور التي تلقيها يداه وأصابعه على الحائط بما يناسب من التعليقات.
وكل مهارة هذا المخرج تكون في أن يستمر لعبه حتى النهاية، دون أن يشعر به الكاتب الذي أعد من أجل أفكاره هذا الجهاز، ولسنا نرى مكاناً لوصف تفصيلي لهذا الجهاز، إذ أننا لا نرى مسوغاً لأن نقدم في هذا العرض النظري، القصة من الصراع الفكري، كل تفاصيلها الواقعية، فحسبنا أن نورد جمل القصة بالصورة التي تتيح لنا أن نعطي فكرة عن تركيب الجهاز الجديد وعن كيفية تشغيله في ظروف معينة.
إن الاختصاصيين المهتمين بالصراع الفكري قرروا ألا يكون عملهم قائماً، في هذه المرة على (دائرة أفكار) معينة، كما كان شأنهم في المرة الأولى التي وصفناها.
إن مبدأ الجهاز الجديد من نوع آخر: إن كل كاتب له- قبل دائرة أفكاره- دائرة تشمل حياته الشخصية في عقر بيته، ودائرة تضم علاقاته الاجتماعية، خارج بيته، مهما يكن عددها.
وهذه الدوائر الثلاث ليست منفصلة الواحدة عن الأخرى، فقد بينا في الفصل السابق كيف أن دوافع الحرمان التي تسلط على شخص كاتب، بأنها وهي توجه إلى دائرته الشخصية، بصفته (كاتباً فرنسياً) مثلاً، تكون موجهة في الواقع إلى دائرة أفكاره.
ولكننا بينا في الوقت نفسه، ضعف هذا التركيب، لأنه لا يشمل الدائرة الشخصية لتنتج مباشرة دوافع الحرمان، وإنما هي تتلقاها من الخارج، وتعكسها فحسب، على دائرة الأفكار التي تكون بهذا، لأن ما تتضمنه من أفكار قد وضع في إضاءة غير مباشرة، أي تحت تأثير دوافع واردة من الخارج.
فالتحسين الذي أدخل على هذا التركيب هو أن يضعها في إضاءة مباشرة، أي أن يضع دائرة أفكار مؤلف مقصود تحت تأثير دائرته الشخصية مباشرة.
والتصميم النظري لهذا الجهاز قد يكون على هذه الصورة:
[(دائرة الأفكار)
(دائرة الصلات الاجتماعية)
(الدائرة الشخصية)]ـ
فيمكننا الآن أن نفسر عمل الجهاز على ضوء هذه الصورة النظرية.
إننا نرى أولاً، أن كل ما يصدر من إشعاع من الدائرة الشخصية الخاصة بفرد معين، يصب حتماً بخيره أو بشره في دائرة أفكاره، لأنه ينعكس عليها بمقتضى تداخل الدائرتين؛ بمعنى أن أي تعفن أخلاقي يحدث داخل الدائرة الشخصية يصل إشعاعه فوراً- بصفته تعفناً- إلى دائرة الأفكار.
وبالآلية نفسها، فإن كل ما يحدث من خير أو شر، على الدائرة الاجتماعية يحدث أثراً إلى الخارج، تجاه دائرة الأفكار وينعكس عليها أيضاً.
ولكن يجب أن نلاحظ أن نصيب الإشعاع الذي يرد من الدائرة الاجتماعية تجاه الداخل، ينعكس على الدائرة الشخصية ثم يعود منها، كإشعاع منعكس، إلى دائرة الأفكار ليلقي عليها ما يحمل وما حمل من الدوافع الحرمانية. حتى إن دائرة الأفكار تتلقى في النهاية، كل ما تشعه الدائرة الاجتماعية في الاتجاهين.
وبالتالي فإن كل ما يحدث بطريقة طبيعية أو صناعية، تعفناً في الدائرة


Jumat, 11 Mei 2018

نهضة العالم الإسلامي المعاصر على منهج النبوة الوعي الاقتصادي والاقتصادانية Economic Awearence And Economisme تحديات المسلم الوسطي أمام التعارض الشديد في المشهد الانساني بين محور واشنطن - موسكو ومحور طنجة – جاكرتا

نهضة العالم الإسلامي المعاصر على منهج النبوة
الوعي الاقتصادي والاقتصادانية
Economic Awearence And Economisme
تحديات المسلم الوسطي أمام التعارض الشديد في المشهد الانساني
بين محور واشنطن - موسكو ومحور طنجة – جاكرتا

في دراسة خلت بدا لي ضرورة أن أشير إلى التعارض الشديد في المشهد الإنساني بين محور واشنطن - موسكو ومحور طنجة - جاكرتا.
وقد بيّنا أن هذا التعارض راجع في جانب منه إلى بنى اقتصادية مختلفة، مفسرين هذه البنى تفسيراً قائماً على جذورها النفسية الثقافية لا على أصولها الاقتصادية.
فالمشكلة نفسية بادئ ذي بدء، ذلك بأن الوعي الاقتصادي لم ينمُ في شعور العالم الإسلامي النموَّ الذي نماه في الغرب في شعور الإنسان المتحضر وحياته.
الواقع أن الاقتصاد في الغرب قد أمسى منذ قرن دعامةً أساسية للحياة الاجتماعية، وقاعدةً جوهرية لتنظيمها، ومبدأ تصرف للفرد، ومثلاً أعلى للأسرة رمزه (جورب الصوف) (1) المشهور في كل بيت (2).
أما الحضارة الإسلامية في الشرق فقد نزلت في فترة من تطوّر البشرِ العام بين الحضارات العتيقة وحضارة الغرب.فاقتصادها يمثل معبراً من الاقتصاد
__________
* ترجم هذا الفصل السيد مروان قنواتي.
(1) كانت الأسرة الريفية الفرنسية تكتنز ما تقتصد في جورب من الصوف، ويقابله عند العرب (الصرة).
(2) Cf. L'Afro-Asiatisme p.179 et suivants, édition Cairo
المألوف إلى الاقتصاد المنظم تنظيماً تايلورياً (1).
زد على ذلك أنه منذ عصر ما بعد الموحدين نجد أن الفكر الإسلامي، المسرّح من مهماته التاريخية من وجه ما، فقد وظيفته على وجه العموم فأمسى آلة تدور في الفراغ نسمع جعجعتها ولا نرى طحناً. حتى إن اتجاهاً أو مذهباً اقتصادياً إسلامياً خاصاً لم يكن ليقوى على البزوغ، ذلك بأنه لا يملك أن يتعلق بفكرة (الربح الحر) التي هي دعامة الرأسمالية ولا بفكرة (الحاجة) التي هي نواة الماركسية.
فدعائم المفاهيم للنشاط الاقتصادي القديم- من وضوح ودقة ونظام وتنظيم وثقة ... - للمجتمع المسلم، انحلت في التفسخ العام الذي أصابه ساعة كانت أوربا على عتبة عصر اقتصادي جديد، بما أوتيت من اكتشافات جغرافية كبرى في القرن السادس عشر الميلادي.
ولم يكن المجتمع المسلم، وقد أثقله عبء حضارة آفلة، بقادرعلى أن يقتفي آثار حضارة ناشئة أخرى على عتبة انقلابات، لم تقتصر على أن تؤدي بالعالم الحديث إلى إحياء دعائم المفاهيم القديمة للاقتصاد، بل أدّت به أيضاً إلى إيجاد دعائم مفاهيم جديدة كساعة العمل والقدرة على الإنتاج، وإلى إيجاد دعائم مادية تندّ عن التصور- كالبخار والكهرباء والآلة- دخل البشر بها الثورة الصناعية الفنية.
حتى إن العالم الثالث كله غداة الانسلاخ من الاستعمار لم يكن عليه أن يتخلص من سلبيته الموروثة وحدها، بل من عواقب ركوده أيضاً ساعة وثبة أوربا في الميدان الاقتصادي.
__________
(1) نسبة إلى (تايلور) صاحب النظرية الاقتصادية التي أدخلت فكرة ضبط الإنتاج بترتيب الحركات حسب الوقت وترتيب الوقت حسب الحركات (دراسة العمل والزمن).
وقد جاوزت هذه العواقب في سوئها حداً، جعلها تمثل صعوبات مادية كبرى في طريق البلدان المستعمرة، وعقداً نفسية تحكم على هذه البلدان بضربٍ من الصبيانية الاقتصادية.
إن إنسان العالم الثالث عامة والمسلم خاصة، يظنان أنهما بارئان من أسقامهما بدواءٍ جديد يشفيهما من كل داء. وقد تكلما عن الاقتصاد كلامهما عن حجر جديد للفلاسفة يملك أن يجعل الفقر غنى برمشة عين، فوقعا في ضرب من الصبيانية الاقتصادية Economisme.
وما يزيد الطين بلة أن حجر الفلاسفة الذي يزعمان المداواة به، لا يصنع المعجزات في البلد الذي يتخذه علاجاً، بل يدسّ له من مخابر البلدان المتقدمة التي همّها الأكبر ضمان مصالحها لا تخفيف عبء البلدان المتخلفة.
وهذا الدواء الشافي من كل داء في العالم الإسلامي لم يكن له من أثر، إلا أن جعله فريسة شر أدوائه بإيقاعه في (الاقتصادانية L'Economisme).
والاقتصادانية إنما هي فقاعة غاز لا تحوي أي واقع اقتصادي، بل هي أسوأ. إنها ظرف يبدي ألوان قوس قزح لألاءة براقة، إنه يحوي أوهاماً خلابة ضائعة وتناقضات تدعو للسخرية.
إن الاقتصادانية أو المعاشية لم ينزلْ بها قرآن من السماء، بل أفرزتها كائنات أميبية جسّدت القابلية للاستعمار وتجسد التخلف اليوم. وهي عموماً تعني بادئ ذي بدء استبداداً، أي تقييداً جديداً لحرية التصرف، فيه يلتهم المشرّع الاقتصادي القيمَ الأخلاقية والمدنية كلّها لأبناء الشعوب المستعمرة حتى يعززوا كما يزعمون، الاستقلال السياسي الذي اكتسبه الشعب.
حتى إن الاقتصادي لا يحيي القرية بإعادة كرامة المواطن التي داستها الأقدام ووطئتها قروناً طوالاً، بل يلبسه ثوب الذل كرة أخرى ويخنق أنفاسه ويضيق
عليه الحريات المدنية، أي يثقل مشكلة الإنسان من جديد بعناصر سالبة جديدة.
وإن ابتغت الاقتصادانية أن تفعل خيراً فإنها تتصور شؤون المجتع الإنساني تصور تسيير لمطعم حقير حسابه يتم بعمليتين اثنتين: جمع لا يدخل من مال، وطرح للنفقات.
عندما يمسي مذهب اقتصاداني نفيا لسنن التاريخ البشري، فيجرد تجريداً مذهبياً من القيم الثقافية التي تنشد كل جهد للنهوض الاجتماعي القائم على الإنسان، نجد أن (منهج التنمية) المزعوم يؤكد ما هو أسوأ من أدواء التخلف كلها.
ويا ليت التسيير الاقتصادي يخلو من العقد! فمولى المطعم الحقير يصب فيه مع الأسف أوهامه الطفولية وتناقضاته التي يزهو بها معاً.
إن المجتمع الإسلامي في اللحظة الراهنة يقوم في البلاد كلها بجهود مشكورة ويضحي تضحيات نبيلة لإيجاد أطر أو ملاكات صناعية فنية ضرورية هنا وهناك، ولزيادة جهد النهوض الاقتصادي. بيد أن عالماً اجتماعياً إيرانياً يبين لنا مع ذلك في بحث رعته هيئة الأمم المتحدة، عظم هجرة أدمغة العالم الثالث أو العالم الإسلامي خاصة إلى البلدان المتقدمة.
فهل نظروا في بلادنا إلى هذا التقرير التحليلي فاتخذوا التدابير المناسبة؟ وفي هذا الصدد ينبغي لنا أن نصغي إلى متخصص عربي في النفط هو الشيخ (أحمد الطريقي) الذي يعطينا تعليمات قيمة حول موقف البلدان العربية المنتجة في ميدان الانتفاع بالأدمغة العربية المكوّنة في البلدان الغربية.
إنه موقف التعالي الصلف الذي يذل. حتى إن (الدماغ العربي) يبحث
فيجد خير منتفع بكفاءته في مواطن أخرى (1).
فحيثما كانت (الاقتصادانية) وما يتبعها من حاجة عظمى للأدمغة جاء بلد متقدم فامتصها. وما هذا إلا تناقض قليل الشأن، ذلك بأن الاقتصادانية تفعل أكثر منه أيضاً. فعندما يحط الدماغ المكوّن بنفقات عظيمة في مسقطه يصبح مصيره رهناً للنزوة الطائشة. فقد يرى نفسه، بعد إذ تكوّن في مدرسة كبرى، كاتباً في إدارة على سبيل المثل. وقد يرى نفسه، بعد إذ غدا مهندساً في مؤسسة صناعية فنية ألمانية، عاملاً إدارياً وراء مكتب في هذا القطاع العام أو ذاك.
حتى إن التخلف الذي هو نقص في الوسائل على الصعيد الاقتصادي، ينوء حمله الاقتصادي بجانب سلبيّ جديد من الوجهة النفسية: هو سوء الانتفاع بالوسائل.
ولقد انتصرت الصين الشعبية انتصاراً كاسحاً على هذا الجانب، الذي كان يفرض عليها الخيار بين (الصنع والشراء)، ولكنها لم تنتصر عليه ذلك الانتصار إلا بما قامت به من ثورة ثقافية.
فينبغي للبلدان الأخرى في العالم الثالث أن تقوم هي أيضاً بثورتها الثقافية، حتى تذلل المصاعب ولا سيما العقد التي تعوق سبيل تنميتها الاقتصادية.
وليس بضربة لازب أن تختار لذلك قدوة معينة في التنمية أياً كان شأنها، فالاقتصاد يسلك سبله الخاصة التي ليست بالضرورة سبل الرأسمالية ولا سبل الماركسية.
إن المجتمع في منطلقه يتمتع دائماً بسلطان اجتماعي، يمثله الإنسان والأرض والزمان الذين يملكهم في الحالات جميعاً، لكنه لا يملك سلطاناً مالياً دائماً.
__________
(1) مقابلة في الرائي الجزائري ( Television) في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1971م.
فينبغي لخطط تنميته والحال هذه أن تعتمد اعتماداً أكثر على السلطان الاجتماعي، حتى لا تعبر عن وسواس نقص المال الذي يهلكها من البداية بإخضاعها إلى إرادة المال.
وفي البلاد الإسلامية خاصة ليست المسألة بأن نعطي المال سلطاناً لم ينزل به الله، بتركيزه في أيد قليلة يتبعه انخفاض في مستوى المعيشة، ونقص من القوة الشرائية وإفقار للجماهير الكادحة، وليست المسألة بأن ينتزع منه كل سلطان كذلك بإذابته في ضرب المساواة الطوباوية يذهب بنجعه النافع في دفع الإنتاج.
فينبغي لنا أن نجعل للمال قيمة نسبية، ولكن ينبغي لنا أيضاً أن نكشف النقاب عن مفهوم (الإنتاج)، فلا ينبغي أن يغدو المثل الأعلى للمجتمع كما فعلت (الستاخانوفية) في الاتحاد السوفييتي قبل الحرب العالمية الثانية، بل ضرورة ملحة، تلبيتها شرط كل حياة اجتماعية. ولئن ابتغى قوم صوغ هذا الشرط في حكمة قلنا: نحن لا نعيش لنأكل، بيد أننا نهلك إذا لم نأكل.
وبعبارة أخرى إن خطط التنمية أياً كان إلزامها الاقتصادي الذي نقدره حق قدره، ينبغي لها مع ذلك أن تطوي كشحاً عن هذا الإلزام لضرورات عليا، حتى لا تهوي في الاقتصادانية، وهم أولئك الذين يظنون أنهم يحلون المشكلات البشرية كلها بسبل اقتصادية.
يبدو أن العالم الإسلامي في هذه الآونة مصاب بهذا الداء. وهو داء نكأته الحربان العالميتان في هذا القرن، فانتقل من عدم الوعي الاقتصادي الشامل إلى الحصر (1) ( Obsession) الاقتصادي، كأنما ليس للمسلم إلا سبيل واحدة للتفتح: أن يكون بشراً اقتصادياً ( Homo économicus) وألا يكون غير هذا.
__________
(1) هذا مصطلح وفق إليه أحمد عزة راجح أستاذ علم النفس في جامعة الاسكندرية جزاه الله خيراً، رجع فيه إلى قوله تعالى: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ..... }.
ولا يخفى علينا أن التعليم الإسلامي كله في القرآن والسنة يدعوه إلى الحلول الوسطى دائماً:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ... }. [البقرة 2/ 143].
فتوعية الإنسان المسلم في الميدان الاقتصادي، يجب ألا تجره إلى وثنية جديدة ليصير من عبّاد صنم جديد اسمه (الاقتصادانية) أو حتى الاقتصاد.