Jumat, 11 Mei 2018

نهضة العالم الإسلامي المعاصر على منهج النبوة الوعي الاقتصادي والاقتصادانية Economic Awearence And Economisme تحديات المسلم الوسطي أمام التعارض الشديد في المشهد الانساني بين محور واشنطن - موسكو ومحور طنجة – جاكرتا

نهضة العالم الإسلامي المعاصر على منهج النبوة
الوعي الاقتصادي والاقتصادانية
Economic Awearence And Economisme
تحديات المسلم الوسطي أمام التعارض الشديد في المشهد الانساني
بين محور واشنطن - موسكو ومحور طنجة – جاكرتا

في دراسة خلت بدا لي ضرورة أن أشير إلى التعارض الشديد في المشهد الإنساني بين محور واشنطن - موسكو ومحور طنجة - جاكرتا.
وقد بيّنا أن هذا التعارض راجع في جانب منه إلى بنى اقتصادية مختلفة، مفسرين هذه البنى تفسيراً قائماً على جذورها النفسية الثقافية لا على أصولها الاقتصادية.
فالمشكلة نفسية بادئ ذي بدء، ذلك بأن الوعي الاقتصادي لم ينمُ في شعور العالم الإسلامي النموَّ الذي نماه في الغرب في شعور الإنسان المتحضر وحياته.
الواقع أن الاقتصاد في الغرب قد أمسى منذ قرن دعامةً أساسية للحياة الاجتماعية، وقاعدةً جوهرية لتنظيمها، ومبدأ تصرف للفرد، ومثلاً أعلى للأسرة رمزه (جورب الصوف) (1) المشهور في كل بيت (2).
أما الحضارة الإسلامية في الشرق فقد نزلت في فترة من تطوّر البشرِ العام بين الحضارات العتيقة وحضارة الغرب.فاقتصادها يمثل معبراً من الاقتصاد
__________
* ترجم هذا الفصل السيد مروان قنواتي.
(1) كانت الأسرة الريفية الفرنسية تكتنز ما تقتصد في جورب من الصوف، ويقابله عند العرب (الصرة).
(2) Cf. L'Afro-Asiatisme p.179 et suivants, édition Cairo
المألوف إلى الاقتصاد المنظم تنظيماً تايلورياً (1).
زد على ذلك أنه منذ عصر ما بعد الموحدين نجد أن الفكر الإسلامي، المسرّح من مهماته التاريخية من وجه ما، فقد وظيفته على وجه العموم فأمسى آلة تدور في الفراغ نسمع جعجعتها ولا نرى طحناً. حتى إن اتجاهاً أو مذهباً اقتصادياً إسلامياً خاصاً لم يكن ليقوى على البزوغ، ذلك بأنه لا يملك أن يتعلق بفكرة (الربح الحر) التي هي دعامة الرأسمالية ولا بفكرة (الحاجة) التي هي نواة الماركسية.
فدعائم المفاهيم للنشاط الاقتصادي القديم- من وضوح ودقة ونظام وتنظيم وثقة ... - للمجتمع المسلم، انحلت في التفسخ العام الذي أصابه ساعة كانت أوربا على عتبة عصر اقتصادي جديد، بما أوتيت من اكتشافات جغرافية كبرى في القرن السادس عشر الميلادي.
ولم يكن المجتمع المسلم، وقد أثقله عبء حضارة آفلة، بقادرعلى أن يقتفي آثار حضارة ناشئة أخرى على عتبة انقلابات، لم تقتصر على أن تؤدي بالعالم الحديث إلى إحياء دعائم المفاهيم القديمة للاقتصاد، بل أدّت به أيضاً إلى إيجاد دعائم مفاهيم جديدة كساعة العمل والقدرة على الإنتاج، وإلى إيجاد دعائم مادية تندّ عن التصور- كالبخار والكهرباء والآلة- دخل البشر بها الثورة الصناعية الفنية.
حتى إن العالم الثالث كله غداة الانسلاخ من الاستعمار لم يكن عليه أن يتخلص من سلبيته الموروثة وحدها، بل من عواقب ركوده أيضاً ساعة وثبة أوربا في الميدان الاقتصادي.
__________
(1) نسبة إلى (تايلور) صاحب النظرية الاقتصادية التي أدخلت فكرة ضبط الإنتاج بترتيب الحركات حسب الوقت وترتيب الوقت حسب الحركات (دراسة العمل والزمن).
وقد جاوزت هذه العواقب في سوئها حداً، جعلها تمثل صعوبات مادية كبرى في طريق البلدان المستعمرة، وعقداً نفسية تحكم على هذه البلدان بضربٍ من الصبيانية الاقتصادية.
إن إنسان العالم الثالث عامة والمسلم خاصة، يظنان أنهما بارئان من أسقامهما بدواءٍ جديد يشفيهما من كل داء. وقد تكلما عن الاقتصاد كلامهما عن حجر جديد للفلاسفة يملك أن يجعل الفقر غنى برمشة عين، فوقعا في ضرب من الصبيانية الاقتصادية Economisme.
وما يزيد الطين بلة أن حجر الفلاسفة الذي يزعمان المداواة به، لا يصنع المعجزات في البلد الذي يتخذه علاجاً، بل يدسّ له من مخابر البلدان المتقدمة التي همّها الأكبر ضمان مصالحها لا تخفيف عبء البلدان المتخلفة.
وهذا الدواء الشافي من كل داء في العالم الإسلامي لم يكن له من أثر، إلا أن جعله فريسة شر أدوائه بإيقاعه في (الاقتصادانية L'Economisme).
والاقتصادانية إنما هي فقاعة غاز لا تحوي أي واقع اقتصادي، بل هي أسوأ. إنها ظرف يبدي ألوان قوس قزح لألاءة براقة، إنه يحوي أوهاماً خلابة ضائعة وتناقضات تدعو للسخرية.
إن الاقتصادانية أو المعاشية لم ينزلْ بها قرآن من السماء، بل أفرزتها كائنات أميبية جسّدت القابلية للاستعمار وتجسد التخلف اليوم. وهي عموماً تعني بادئ ذي بدء استبداداً، أي تقييداً جديداً لحرية التصرف، فيه يلتهم المشرّع الاقتصادي القيمَ الأخلاقية والمدنية كلّها لأبناء الشعوب المستعمرة حتى يعززوا كما يزعمون، الاستقلال السياسي الذي اكتسبه الشعب.
حتى إن الاقتصادي لا يحيي القرية بإعادة كرامة المواطن التي داستها الأقدام ووطئتها قروناً طوالاً، بل يلبسه ثوب الذل كرة أخرى ويخنق أنفاسه ويضيق
عليه الحريات المدنية، أي يثقل مشكلة الإنسان من جديد بعناصر سالبة جديدة.
وإن ابتغت الاقتصادانية أن تفعل خيراً فإنها تتصور شؤون المجتع الإنساني تصور تسيير لمطعم حقير حسابه يتم بعمليتين اثنتين: جمع لا يدخل من مال، وطرح للنفقات.
عندما يمسي مذهب اقتصاداني نفيا لسنن التاريخ البشري، فيجرد تجريداً مذهبياً من القيم الثقافية التي تنشد كل جهد للنهوض الاجتماعي القائم على الإنسان، نجد أن (منهج التنمية) المزعوم يؤكد ما هو أسوأ من أدواء التخلف كلها.
ويا ليت التسيير الاقتصادي يخلو من العقد! فمولى المطعم الحقير يصب فيه مع الأسف أوهامه الطفولية وتناقضاته التي يزهو بها معاً.
إن المجتمع الإسلامي في اللحظة الراهنة يقوم في البلاد كلها بجهود مشكورة ويضحي تضحيات نبيلة لإيجاد أطر أو ملاكات صناعية فنية ضرورية هنا وهناك، ولزيادة جهد النهوض الاقتصادي. بيد أن عالماً اجتماعياً إيرانياً يبين لنا مع ذلك في بحث رعته هيئة الأمم المتحدة، عظم هجرة أدمغة العالم الثالث أو العالم الإسلامي خاصة إلى البلدان المتقدمة.
فهل نظروا في بلادنا إلى هذا التقرير التحليلي فاتخذوا التدابير المناسبة؟ وفي هذا الصدد ينبغي لنا أن نصغي إلى متخصص عربي في النفط هو الشيخ (أحمد الطريقي) الذي يعطينا تعليمات قيمة حول موقف البلدان العربية المنتجة في ميدان الانتفاع بالأدمغة العربية المكوّنة في البلدان الغربية.
إنه موقف التعالي الصلف الذي يذل. حتى إن (الدماغ العربي) يبحث
فيجد خير منتفع بكفاءته في مواطن أخرى (1).
فحيثما كانت (الاقتصادانية) وما يتبعها من حاجة عظمى للأدمغة جاء بلد متقدم فامتصها. وما هذا إلا تناقض قليل الشأن، ذلك بأن الاقتصادانية تفعل أكثر منه أيضاً. فعندما يحط الدماغ المكوّن بنفقات عظيمة في مسقطه يصبح مصيره رهناً للنزوة الطائشة. فقد يرى نفسه، بعد إذ تكوّن في مدرسة كبرى، كاتباً في إدارة على سبيل المثل. وقد يرى نفسه، بعد إذ غدا مهندساً في مؤسسة صناعية فنية ألمانية، عاملاً إدارياً وراء مكتب في هذا القطاع العام أو ذاك.
حتى إن التخلف الذي هو نقص في الوسائل على الصعيد الاقتصادي، ينوء حمله الاقتصادي بجانب سلبيّ جديد من الوجهة النفسية: هو سوء الانتفاع بالوسائل.
ولقد انتصرت الصين الشعبية انتصاراً كاسحاً على هذا الجانب، الذي كان يفرض عليها الخيار بين (الصنع والشراء)، ولكنها لم تنتصر عليه ذلك الانتصار إلا بما قامت به من ثورة ثقافية.
فينبغي للبلدان الأخرى في العالم الثالث أن تقوم هي أيضاً بثورتها الثقافية، حتى تذلل المصاعب ولا سيما العقد التي تعوق سبيل تنميتها الاقتصادية.
وليس بضربة لازب أن تختار لذلك قدوة معينة في التنمية أياً كان شأنها، فالاقتصاد يسلك سبله الخاصة التي ليست بالضرورة سبل الرأسمالية ولا سبل الماركسية.
إن المجتمع في منطلقه يتمتع دائماً بسلطان اجتماعي، يمثله الإنسان والأرض والزمان الذين يملكهم في الحالات جميعاً، لكنه لا يملك سلطاناً مالياً دائماً.
__________
(1) مقابلة في الرائي الجزائري ( Television) في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1971م.
فينبغي لخطط تنميته والحال هذه أن تعتمد اعتماداً أكثر على السلطان الاجتماعي، حتى لا تعبر عن وسواس نقص المال الذي يهلكها من البداية بإخضاعها إلى إرادة المال.
وفي البلاد الإسلامية خاصة ليست المسألة بأن نعطي المال سلطاناً لم ينزل به الله، بتركيزه في أيد قليلة يتبعه انخفاض في مستوى المعيشة، ونقص من القوة الشرائية وإفقار للجماهير الكادحة، وليست المسألة بأن ينتزع منه كل سلطان كذلك بإذابته في ضرب المساواة الطوباوية يذهب بنجعه النافع في دفع الإنتاج.
فينبغي لنا أن نجعل للمال قيمة نسبية، ولكن ينبغي لنا أيضاً أن نكشف النقاب عن مفهوم (الإنتاج)، فلا ينبغي أن يغدو المثل الأعلى للمجتمع كما فعلت (الستاخانوفية) في الاتحاد السوفييتي قبل الحرب العالمية الثانية، بل ضرورة ملحة، تلبيتها شرط كل حياة اجتماعية. ولئن ابتغى قوم صوغ هذا الشرط في حكمة قلنا: نحن لا نعيش لنأكل، بيد أننا نهلك إذا لم نأكل.
وبعبارة أخرى إن خطط التنمية أياً كان إلزامها الاقتصادي الذي نقدره حق قدره، ينبغي لها مع ذلك أن تطوي كشحاً عن هذا الإلزام لضرورات عليا، حتى لا تهوي في الاقتصادانية، وهم أولئك الذين يظنون أنهم يحلون المشكلات البشرية كلها بسبل اقتصادية.
يبدو أن العالم الإسلامي في هذه الآونة مصاب بهذا الداء. وهو داء نكأته الحربان العالميتان في هذا القرن، فانتقل من عدم الوعي الاقتصادي الشامل إلى الحصر (1) ( Obsession) الاقتصادي، كأنما ليس للمسلم إلا سبيل واحدة للتفتح: أن يكون بشراً اقتصادياً ( Homo économicus) وألا يكون غير هذا.
__________
(1) هذا مصطلح وفق إليه أحمد عزة راجح أستاذ علم النفس في جامعة الاسكندرية جزاه الله خيراً، رجع فيه إلى قوله تعالى: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ..... }.
ولا يخفى علينا أن التعليم الإسلامي كله في القرآن والسنة يدعوه إلى الحلول الوسطى دائماً:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ... }. [البقرة 2/ 143].
فتوعية الإنسان المسلم في الميدان الاقتصادي، يجب ألا تجره إلى وثنية جديدة ليصير من عبّاد صنم جديد اسمه (الاقتصادانية) أو حتى الاقتصاد.

نهضة العالم الإسلامي المعاصر على منهج النبوة
الوعي الاقتصادي والاقتصادانية Economie et Economisme
تحديات المسلم الوسطي أمام التعارض الشديد في المشهد الانساني
بين محور واشنطن - موسكو ومحور طنجة – جاكرتا

في دراسة خلت بدا لي ضرورة أن أشير إلى التعارض الشديد في المشهد الإنساني بين محور واشنطن - موسكو ومحور طنجة - جاكرتا.
وقد بيّنا أن هذا التعارض راجع في جانب منه إلى بنى اقتصادية مختلفة، مفسرين هذه البنى تفسيراً قائماً على جذورها النفسية الثقافية لا على أصولها الاقتصادية.
فالمشكلة نفسية بادئ ذي بدء، ذلك بأن الوعي الاقتصادي لم ينمُ في شعور العالم الإسلامي النموَّ الذي نماه في الغرب في شعور الإنسان المتحضر وحياته.
الواقع أن الاقتصاد في الغرب قد أمسى منذ قرن دعامةً أساسية للحياة الاجتماعية، وقاعدةً جوهرية لتنظيمها، ومبدأ تصرف للفرد، ومثلاً أعلى للأسرة رمزه (جورب الصوف) (1) المشهور في كل بيت (2).
أما الحضارة الإسلامية في الشرق فقد نزلت في فترة من تطوّر البشرِ العام بين الحضارات العتيقة وحضارة الغرب.فاقتصادها يمثل معبراً من الاقتصاد
__________
* ترجم هذا الفصل السيد مروان قنواتي.
(1) كانت الأسرة الريفية الفرنسية تكتنز ما تقتصد في جورب من الصوف، ويقابله عند العرب (الصرة).
(2) Cf. L'Afro-Asiatisme p.179 et suivants, édition Cairo
المألوف إلى الاقتصاد المنظم تنظيماً تايلورياً (1).
زد على ذلك أنه منذ عصر ما بعد الموحدين نجد أن الفكر الإسلامي، المسرّح من مهماته التاريخية من وجه ما، فقد وظيفته على وجه العموم فأمسى آلة تدور في الفراغ نسمع جعجعتها ولا نرى طحناً. حتى إن اتجاهاً أو مذهباً اقتصادياً إسلامياً خاصاً لم يكن ليقوى على البزوغ، ذلك بأنه لا يملك أن يتعلق بفكرة (الربح الحر) التي هي دعامة الرأسمالية ولا بفكرة (الحاجة) التي هي نواة الماركسية.
فدعائم المفاهيم للنشاط الاقتصادي القديم- من وضوح ودقة ونظام وتنظيم وثقة ... - للمجتمع المسلم، انحلت في التفسخ العام الذي أصابه ساعة كانت أوربا على عتبة عصر اقتصادي جديد، بما أوتيت من اكتشافات جغرافية كبرى في القرن السادس عشر الميلادي.
ولم يكن المجتمع المسلم، وقد أثقله عبء حضارة آفلة، بقادرعلى أن يقتفي آثار حضارة ناشئة أخرى على عتبة انقلابات، لم تقتصر على أن تؤدي بالعالم الحديث إلى إحياء دعائم المفاهيم القديمة للاقتصاد، بل أدّت به أيضاً إلى إيجاد دعائم مفاهيم جديدة كساعة العمل والقدرة على الإنتاج، وإلى إيجاد دعائم مادية تندّ عن التصور- كالبخار والكهرباء والآلة- دخل البشر بها الثورة الصناعية الفنية.
حتى إن العالم الثالث كله غداة الانسلاخ من الاستعمار لم يكن عليه أن يتخلص من سلبيته الموروثة وحدها، بل من عواقب ركوده أيضاً ساعة وثبة أوربا في الميدان الاقتصادي.
__________
(1) نسبة إلى (تايلور) صاحب النظرية الاقتصادية التي أدخلت فكرة ضبط الإنتاج بترتيب الحركات حسب الوقت وترتيب الوقت حسب الحركات (دراسة العمل والزمن).
وقد جاوزت هذه العواقب في سوئها حداً، جعلها تمثل صعوبات مادية كبرى في طريق البلدان المستعمرة، وعقداً نفسية تحكم على هذه البلدان بضربٍ من الصبيانية الاقتصادية.
إن إنسان العالم الثالث عامة والمسلم خاصة، يظنان أنهما بارئان من أسقامهما بدواءٍ جديد يشفيهما من كل داء. وقد تكلما عن الاقتصاد كلامهما عن حجر جديد للفلاسفة يملك أن يجعل الفقر غنى برمشة عين، فوقعا في ضرب من الصبيانية الاقتصادية Economisme.
وما يزيد الطين بلة أن حجر الفلاسفة الذي يزعمان المداواة به، لا يصنع المعجزات في البلد الذي يتخذه علاجاً، بل يدسّ له من مخابر البلدان المتقدمة التي همّها الأكبر ضمان مصالحها لا تخفيف عبء البلدان المتخلفة.
وهذا الدواء الشافي من كل داء في العالم الإسلامي لم يكن له من أثر، إلا أن جعله فريسة شر أدوائه بإيقاعه في (الاقتصادانية L'Economisme).
والاقتصادانية إنما هي فقاعة غاز لا تحوي أي واقع اقتصادي، بل هي أسوأ. إنها ظرف يبدي ألوان قوس قزح لألاءة براقة، إنه يحوي أوهاماً خلابة ضائعة وتناقضات تدعو للسخرية.
إن الاقتصادانية أو المعاشية لم ينزلْ بها قرآن من السماء، بل أفرزتها كائنات أميبية جسّدت القابلية للاستعمار وتجسد التخلف اليوم. وهي عموماً تعني بادئ ذي بدء استبداداً، أي تقييداً جديداً لحرية التصرف، فيه يلتهم المشرّع الاقتصادي القيمَ الأخلاقية والمدنية كلّها لأبناء الشعوب المستعمرة حتى يعززوا كما يزعمون، الاستقلال السياسي الذي اكتسبه الشعب.
حتى إن الاقتصادي لا يحيي القرية بإعادة كرامة المواطن التي داستها الأقدام ووطئتها قروناً طوالاً، بل يلبسه ثوب الذل كرة أخرى ويخنق أنفاسه ويضيق
عليه الحريات المدنية، أي يثقل مشكلة الإنسان من جديد بعناصر سالبة جديدة.
وإن ابتغت الاقتصادانية أن تفعل خيراً فإنها تتصور شؤون المجتع الإنساني تصور تسيير لمطعم حقير حسابه يتم بعمليتين اثنتين: جمع لا يدخل من مال، وطرح للنفقات.
عندما يمسي مذهب اقتصاداني نفيا لسنن التاريخ البشري، فيجرد تجريداً مذهبياً من القيم الثقافية التي تنشد كل جهد للنهوض الاجتماعي القائم على الإنسان، نجد أن (منهج التنمية) المزعوم يؤكد ما هو أسوأ من أدواء التخلف كلها.
ويا ليت التسيير الاقتصادي يخلو من العقد! فمولى المطعم الحقير يصب فيه مع الأسف أوهامه الطفولية وتناقضاته التي يزهو بها معاً.
إن المجتمع الإسلامي في اللحظة الراهنة يقوم في البلاد كلها بجهود مشكورة ويضحي تضحيات نبيلة لإيجاد أطر أو ملاكات صناعية فنية ضرورية هنا وهناك، ولزيادة جهد النهوض الاقتصادي. بيد أن عالماً اجتماعياً إيرانياً يبين لنا مع ذلك في بحث رعته هيئة الأمم المتحدة، عظم هجرة أدمغة العالم الثالث أو العالم الإسلامي خاصة إلى البلدان المتقدمة.
فهل نظروا في بلادنا إلى هذا التقرير التحليلي فاتخذوا التدابير المناسبة؟ وفي هذا الصدد ينبغي لنا أن نصغي إلى متخصص عربي في النفط هو الشيخ (أحمد الطريقي) الذي يعطينا تعليمات قيمة حول موقف البلدان العربية المنتجة في ميدان الانتفاع بالأدمغة العربية المكوّنة في البلدان الغربية.
إنه موقف التعالي الصلف الذي يذل. حتى إن (الدماغ العربي) يبحث
فيجد خير منتفع بكفاءته في مواطن أخرى (1).
فحيثما كانت (الاقتصادانية) وما يتبعها من حاجة عظمى للأدمغة جاء بلد متقدم فامتصها. وما هذا إلا تناقض قليل الشأن، ذلك بأن الاقتصادانية تفعل أكثر منه أيضاً. فعندما يحط الدماغ المكوّن بنفقات عظيمة في مسقطه يصبح مصيره رهناً للنزوة الطائشة. فقد يرى نفسه، بعد إذ تكوّن في مدرسة كبرى، كاتباً في إدارة على سبيل المثل. وقد يرى نفسه، بعد إذ غدا مهندساً في مؤسسة صناعية فنية ألمانية، عاملاً إدارياً وراء مكتب في هذا القطاع العام أو ذاك.
حتى إن التخلف الذي هو نقص في الوسائل على الصعيد الاقتصادي، ينوء حمله الاقتصادي بجانب سلبيّ جديد من الوجهة النفسية: هو سوء الانتفاع بالوسائل.
ولقد انتصرت الصين الشعبية انتصاراً كاسحاً على هذا الجانب، الذي كان يفرض عليها الخيار بين (الصنع والشراء)، ولكنها لم تنتصر عليه ذلك الانتصار إلا بما قامت به من ثورة ثقافية.
فينبغي للبلدان الأخرى في العالم الثالث أن تقوم هي أيضاً بثورتها الثقافية، حتى تذلل المصاعب ولا سيما العقد التي تعوق سبيل تنميتها الاقتصادية.
وليس بضربة لازب أن تختار لذلك قدوة معينة في التنمية أياً كان شأنها، فالاقتصاد يسلك سبله الخاصة التي ليست بالضرورة سبل الرأسمالية ولا سبل الماركسية.
إن المجتمع في منطلقه يتمتع دائماً بسلطان اجتماعي، يمثله الإنسان والأرض والزمان الذين يملكهم في الحالات جميعاً، لكنه لا يملك سلطاناً مالياً دائماً.
__________
(1) مقابلة في الرائي الجزائري ( Television) في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1971م.
فينبغي لخطط تنميته والحال هذه أن تعتمد اعتماداً أكثر على السلطان الاجتماعي، حتى لا تعبر عن وسواس نقص المال الذي يهلكها من البداية بإخضاعها إلى إرادة المال.
وفي البلاد الإسلامية خاصة ليست المسألة بأن نعطي المال سلطاناً لم ينزل به الله، بتركيزه في أيد قليلة يتبعه انخفاض في مستوى المعيشة، ونقص من القوة الشرائية وإفقار للجماهير الكادحة، وليست المسألة بأن ينتزع منه كل سلطان كذلك بإذابته في ضرب المساواة الطوباوية يذهب بنجعه النافع في دفع الإنتاج.
فينبغي لنا أن نجعل للمال قيمة نسبية، ولكن ينبغي لنا أيضاً أن نكشف النقاب عن مفهوم (الإنتاج)، فلا ينبغي أن يغدو المثل الأعلى للمجتمع كما فعلت (الستاخانوفية) في الاتحاد السوفييتي قبل الحرب العالمية الثانية، بل ضرورة ملحة، تلبيتها شرط كل حياة اجتماعية. ولئن ابتغى قوم صوغ هذا الشرط في حكمة قلنا: نحن لا نعيش لنأكل، بيد أننا نهلك إذا لم نأكل.
وبعبارة أخرى إن خطط التنمية أياً كان إلزامها الاقتصادي الذي نقدره حق قدره، ينبغي لها مع ذلك أن تطوي كشحاً عن هذا الإلزام لضرورات عليا، حتى لا تهوي في الاقتصادانية، وهم أولئك الذين يظنون أنهم يحلون المشكلات البشرية كلها بسبل اقتصادية.
يبدو أن العالم الإسلامي في هذه الآونة مصاب بهذا الداء. وهو داء نكأته الحربان العالميتان في هذا القرن، فانتقل من عدم الوعي الاقتصادي الشامل إلى الحصر (1) ( Obsession) الاقتصادي، كأنما ليس للمسلم إلا سبيل واحدة للتفتح: أن يكون بشراً اقتصادياً ( Homo économicus) وألا يكون غير هذا.
__________
(1) هذا مصطلح وفق إليه أحمد عزة راجح أستاذ علم النفس في جامعة الاسكندرية جزاه الله خيراً، رجع فيه إلى قوله تعالى: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ..... }.
ولا يخفى علينا أن التعليم الإسلامي كله في القرآن والسنة يدعوه إلى الحلول الوسطى دائماً:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ... }. [البقرة 2/ 143].
فتوعية الإنسان المسلم في الميدان الاقتصادي، يجب ألا تجره إلى وثنية جديدة ليصير من عبّاد صنم جديد اسمه (الاقتصادانية) أو حتى الاقتصاد.

Tidak ada komentar:

Posting Komentar