نهضة العالم الإسلامي المعاصر على منهج النبوة
الفرد المسلم إزاء مشكلة الصراع في الدوائر المختصة؛
دائرة الأفكار ودائرة الصلات الاجتماعية والدائرة
الشخصية
إن مشكلة الفرد المسلم بالنسبة للصراع الفكري، هي أن
سلوكه يصبح في حكم الفعل الشرطي كما يحدده بافلوف، أي إنه لا يستطيع توجيه فكره
وعمله باختياره طبقاً لمقاييس يحددها عقله ويعيها ضميره، والخطة التي يطبقها
الاستعمار تهدف إلى هذه النتيجة النفسية عن طريق بافلوف.
وهذا السلوك الشرطي ينتج عند المسلم- بصفة طبيعية- من
جراء الدوافع المتعلقة بغريزة الدفاع عن النفس، وهي الدوافع التي انطلقت منذ
الهجوم الاستعماري، في غرة القرن الماضي.
كما ينتج أيضاً- بصفة صناعية- من الإيحاءات التي تسلطها
على مشاعره، ومن وقت إلى آخر المختبرات المختصة، كي ترفع توتر طاقات الدفاع عن
النفس فوق الدرجة اللائقة، حتى يكون الفرد في حالة توتر شاذة.
ويمكن أن نقول دون تردد، إن هذه الدوافع المنطلقة في
حالة غير عادية، وهذه الإيحاءات السلبية هي التي جعلت من المسلم- فيما يظهر- منبوذ
القرن العشرين، أي الشخص الذي يعيش على هامش المجتمع العالمي المعاصر.
ومما يلاحظ بشأنه فعلاً حينما نراقب سلوكه في المناطق
الخارجية عن دار الإسلام القائمة على حدوده، أي في مناطق الاتصال بعالم الآخرين،
فإننا نجده يسلك غالباً- إن لم نقل دائماً- مسلك المتهم أو المتهم بالنسبة
للآخرين، أي مسلك الفرد الذي يعيش منبوذاً في المجتمع العالمي في القرن العشرين.
وهذه الحالة تلقي ثقلاً على مصيره، في الوقت الذي يتقرر
فيه مصير العالم بإجماع الإنسانية.
وإنه لمن لغو الحديث أن نقول إن الاستعمار يعلم هذا
الوضع الشاذ في سلوكنا، ويرى فيه أحسن مشجع لعزلنا عن المجتمع العام، كما يعزل
مكافح الصراع الفكري عن المجتمع الخاص، إذ يعزلنا فعلاً عن عالم نتهمه ويتهمنا، ويملأ
أبصارنا فيه بالأشباح التي يزيد تأثيرها في توترنا، فوق درجة مجرد الدفاع عن
النفس، بينما يزيد المنديل الأحمر في فزعنا من إبليس.
وهكذا تستطيع المختبرات المختصة أن تصرف كل إمكاناتنا
الفكرية والمادية إلى معارك وهمية، فنسمع فيها قعقعة السلاح ودوي الحرب، ولكنا
نتصارع فيها مع أشباح تحركها أمام أبصارنا المسحورة يد خفية ماهرة.
فحينما تصعد صرخة الانتصار في الفضاء، فإن ذلك يعني أن
شبحاً قد اختفى عن المسرح حتى يتيح لنا الشعور بالانتصار عليه.
والتاريخ الإسلامي الحديث لا يخلو من هذه المعارك
الوهمية، التي ننتصر فيها على الأشباح، كتلك المعركة التي خاضها جمال الدين
الأفغاني ومحمد عبده ضد أرنست رينان وجبرايل هنوتو.
ويتبين من خلال بعض الموازنات الحديثة، أن عهد المعارك
الوهمية ضد الأشباح لم ينقض في العالم الإسلامي، كما رأينا ذلك سنة 1948 حينما
خسرنا معركة وهمية ضد شبح اسمه إسائيل، كان يحركه أمام أبصارنا (المسحورة) ذلك
(الحاوي) الماهر، المستر تشرشل وتلميذه الشاطر ترومان.
أو بكلمة واحدة، إننا لا زلنا مستعدين لنصرف من الوقت
والمال والفكر دون جدوى.
ويجب أن نضيف إلى هذا أنه كلما وضعنا أنفسنا في فصل
كهذا، فإن الاستعمار سوف يكلف الاختصاصيين في لعبة الظل، ليصور لنا معركة خيالية
تصرف المسؤولين في البلاد الإسلامية عن المشاكل الحقيقية.
وهذا هو ما نشعر به أولاً، إزاء بعض المشاريع ذات الشأن،
حينما يحاول من يقوم بها، أن يجند الأفكار والأقلام والأموال للدفاع عن الإسلام من
هجمات المستشرقين.
فإذا بالاستعمار يبدي ارتياحه لمثل هذه المشاريع حينما
يأتيه نبؤها، إن لم نقل إنه أوحى من بعيد بفكرتها، لأنها سوف تصرف الأموال
والأقلام والأفكار عن الأشياء الجدية.
كما نشعر أيضاً أنه سوف يبدي قلقه، لو أن أحداً انفلت من
تأثير سحره، وحاول أن يقول إن المشكلة ليست في الدفاع عن الإسلام، الذي يجد في
جوهره حصانته من عطاء الله إليه، ولكن في تعليم المسلمين كيفية الدفاع عن أنفسهم
بما في الإسلام من وسائل الدفاع.
فالاستعمار يغضب حينما يتوقع بأن المشكلة سوف توضع هكذا،
إذ بذلك سوف يفلت من يده زمام الأمور، وأن الناس سوف ينتهون من الحديث عن عورته،
هل هو امرأة أم رجل، وأن القضية سوف تخرج من عالم الميتافيزيقا والظلام لتدخل عالم
الجد، وتصبح قضية مطروحة لعلم النفس والاجتماع، لتدرس في ضوئها الشروط التي تشجع
الاستعمار أو تنمي القابلية للاستعمار، وها نحن أولاء في صميم موضوع هذا الفصل.
إنه لمن ترف القول إذا قلنا إن كل ما يحدث اضطراباً في
خطة الاستعمار المطبقة، أو يحدث أثراً يناقض السلوك الشرطي، الذي أصبحت أفكارنا
وأفعالنا خاضعة له، بمقتضى تلك الخطة، قد يصبح موضع كل اهتهام من طرف الاستعمار.
وإنني لا أشك في أن ما كتبته في محاولة سابقة عن التجربة
التي تتعلق بالعروة الوثقى، لكي أطلع بعض الطلبة المتصلين بي على أسلوب الصراع
الفكري في البلاد المستعمرة قد بلغ الدوائر المختصة، إذ تناولته الأيدي منذ سنتين
داخل الجمهورية العربية المتحدة وخارجها، حتى إن بعض الطلبة وزعوا منه عدداً من
النسخ طبعوها على حسابهم بالآلة الكاتبة الكبيرة (1).
__________
(1) نشير إلى التوزيع الذي قام به بعض أبنائي الطلبة
بليبيا.
ويكون من العبث ومن جهل أسلوب الصراع الفكري إن لم نقدر
هذا.
ولكن هذا التقدير يحتمل نتائج منطقية لا سبيل لأن نقصيها
عن الاعتبار. وهي أن الدوائر المختصة لا يمكنها أن تقف عند حد الاطلاع عندما
يبلغها ما كتب في الموضوع منذ سنتين.
وإذا قدرنا هذا كما يجب، فما النتيجة العلمية بالنسبة
إلى خطة الاستعمار في مواصلة الصراع؟
إن أقل ما يمكن أن نتصوره هو أن تلك الدوائر المختصة،
لابد أن تتقبل الملاحظات المسجلة في الخطوط الذي وزعت منه بعض النسخ في البلاد
العربية، بوصفها نقداً قد يفيدها في تعديل الخطة، إذا ما اقتضت الظروف ذلك، وإننا
نكون قد اتهمنا الاستعمار بما ليس فيه، إذا قدرنا، حينما يشعر بضعف في خطته، أو
بحاجة إلى تعديلها، أنه لا يسارع إلى تدارك الضعف وإلى تصحيح الخطأ في خطته.
والحق إنه ليس للقيادة الاستعمارية في بنائها الفكري،
تلك الحواجز التي نراها تكف عملية التكيف عند قيادتنا.
وإذن فماذا يستنتج من هذا كله؟
إن الدوائر المختصة التي ركبت الجهاز الذي وصفناه في
الفصل السابق، وأطلقنا عليه مرآة الكف ومرآة الحرمان، لم تشعر بالحاجة إلى تغييره
تغييراً كلياً، وإنما رأت أن تعديله قد يكون مجدياً لسايرة ظروف جديدة.
وربما أن هؤلاء الاختصاصيين استفادوا من ملاحظاتي، أكثر
مما استفاد منها الطلبة الذين أردت اطلاعهم عليها، وليس في ذلك أية غرابة.
فكان إذن على أولئك الاختصاصيين تعديل الجهاز، أو بالضبط
تحسينه من الناحية الفنية
ومن ناحية الوسائل، بأن تكون الخطة معززة هذه المرة، بالوسائل الكافية وبالكفاءات
اللازمة، وبالآلات البشرية ( Robots) التي تنجز الأعمال حينما يوضع في ضميرها بعض
نقود كما توضع في صندوق الصدقات.
فالتركيب الجديد يتجاوب أولاً مع الضرورة التي تنتج
عامة، من أن كل فخ عرف مكانه يصبح دون جدوى، أو بالتعبير العسكري: من أن كل جهاز
يقع تصميمه في يد العدو لايبقى صالحاً للاستعمال ضده.
فكان من الضروري إذن- ضرورة فنية- تعديل مرآة الكف التي وصفناها
في الفصل الأخير لأن هذا الوصف ذاته كشف سره منذ سنتين.
ولا شك أن هناك أشياء أخرى تؤيد هذه الضرورة، أشياء
ناتجة عن الظروف الجديدة الخاصة بالبلاد الإسلامية والعربية، وعن الطور الجديد
الذي يمر به الصراع الفكري في العالم عامة، وخاصة في البلاد التي لا زالت في
المعركة التحررية.
فيجب علينا إذن أن نوازن بين الجهاز الجديد والقديم من
جهة جوانب الضعف فيه كي ندرك التحسين الذي أتى به الجديد.
لقد ذكرنا كيف كان التركيب الأول يعرض اسم مؤلف
لانعكاسات المرآة (بوصفه فرنسياً اعتنق الإسلام)، يعرضه لها بصفة ثنائية، بما أنه
كان يقحمه بين اسمين آخرين تلقي عليه تلك الانعكاسات، أي أن الاسم القصود لم يكن
في هذا التركيب ينتج مباشرة الإيحاءات السلبية، وإنما كان يتلقاها من الخارج
ويعكسها فقط.
وكان هذا جانب ضعف في الجهاز، بل إن ما يزيد في هذا
الضعف هو أن أجزاء التركيب كلها ظاهرة مرئية، لأنها كانت مكتوبة على صفحة من صفحات
(العروة الوثقى).
وهكذا تستطيع المختبرات المختصة أن تصرف كل إمكاناتنا
الفكرية والمادية إلى معارك وهمية، فنسمع فيها قعقعة السلاح ودوي الحرب، ولكنا
نتصارع فيها مع أشباح تحركها أمام أبصارنا المسحورة يد خفية ماهرة.
فحينما تصعد صرخة الانتصار في الفضاء، فإن ذلك يعني أن
شبحاً قد اختفى عن المسرح حتى يتيح لنا الشعور بالانتصار عليه.
والتاريخ الإسلامي الحديث لا يخلو من هذه المعارك
الوهمية، التي ننتصر فيها على الأشباح، كتلك المعركة التي خاضها جمال الدين
الأفغاني ومحمد عبده ضد أرنست رينان وجبرايل هنوتو.
ويتبين من خلال بعض الموازنات الحديثة، أن عهد المعارك
الوهمية ضد الأشباح لم ينقض في العالم الإسلامي، كما رأينا ذلك سنة 1948 حينما
خسرنا معركة وهمية ضد شبح اسمه إسائيل، كان يحركه أمام أبصارنا (المسحورة) ذلك
(الحاوي) الماهر، المستر تشرشل وتلميذه الشاطر ترومان.
أو بكلمة واحدة، إننا لا زلنا مستعدين لنصرف من الوقت
والمال والفكر دون جدوى.
ويجب أن نضيف إلى هذا أنه كلما وضعنا أنفسنا في فصل
كهذا، فإن الاستعمار سوف يكلف الاختصاصيين في لعبة الظل، ليصور لنا معركة خيالية
تصرف المسؤولين في البلاد الإسلامية عن المشاكل الحقيقية.
وهذا هو ما نشعر به أولاً، إزاء بعض المشاريع ذات الشأن،
حينما يحاول من يقوم بها، أن يجند الأفكار والأقلام والأموال للدفاع عن الإسلام من
هجمات المستشرقين.
وإذا قدرنا هذا كما يجب، فما النتيجة العلمية بالنسبة
إلى خطة الاستعمار في مواصلة الصراع؟
إن أقل ما يمكن أن نتصوره هو أن تلك الدوائر المختصة،
لابد أن تتقبل الملاحظات المسجلة في الخطوط الذي وزعت منه بعض النسخ في البلاد
العربية، بوصفها نقداً قد يفيدها في تعديل الخطة، إذا ما اقتضت الظروف ذلك، وإننا
نكون قد اتهمنا الاستعمار بما ليس فيه، إذا قدرنا، حينما يشعر بضعف في خطته، أو
بحاجة إلى تعديلها، أنه لا يسارع إلى تدارك الضعف وإلى تصحيح الخطأ في خطته.
والحق إنه ليس للقيادة الاستعمارية في بنائها الفكري،
تلك الحواجز التي نراها تكف عملية التكيف عند قيادتنا.
وإذن فماذا يستنتج من هذا كله؟
إن الدوائر المختصة التي ركبت الجهاز الذي وصفناه في
الفصل السابق، وأطلقنا عليه مرآة الكف ومرآة الحرمان، لم تشعر بالحاجة إلى تغييره
تغييراً كلياً، وإنما رأت أن تعديله قد يكون مجدياً لسايرة ظروف جديدة.
وربما أن هؤلاء الاختصاصيين استفادوا من ملاحظاتي، أكثر
مما استفاد منها الطلبة الذين أردت اطلاعهم عليها، وليس في ذلك أية غرابة.
فكان إذن على أولئك الاختصاصيين تعديل الجهاز، أو بالضبط
تحسينه من الناحية الفنية ومن ناحية الوسائل، بأن تكون الخطة معززة هذه المرة،
بالوسائل الكافية وبالكفاءات اللازمة، وبالآلات البشرية ( Robots) التي تنجز الأعمال حينما يوضع في ضميرها بعض
نقود كما توضع في صندوق الصدقات.
فالتركيب الجديد يتجاوب أولاً مع الضرورة التي تنتج
عامة، من أن كل فخ عرف مكانه يصبح دون جدوى، أو بالتعبير العسكري: من أن كل جهاز
يقع تصميمه في يد العدو لايبقى صالحاً للاستعمال ضده.
فكان من الضروري إذن- ضرورة فنية- تعديل مرآة الكف التي
وصفناها في الفصل الأخير لأن هذا الوصف ذاته كشف سره منذ سنتين.
فكان من الضروري إذن- ضرورة فنية- تعديل مرآة الكف التي
وصفناها في الفصل الأخير لأن هذا الوصف ذاته كشف سره منذ سنتين.
ولا شك أن هناك أشياء أخرى تؤيد هذه الضرورة، أشياء
ناتجة عن الظروف الجديدة الخاصة بالبلاد الإسلامية والعربية، وعن الطور الجديد
الذي يمر به الصراع الفكري في العالم عامة، وخاصة في البلاد التي لا زالت في
المعركة التحررية.
فيجب علينا إذن أن نوازن بين الجهاز الجديد والقديم من
جهة جوانب الضعف فيه كي ندرك التحسين الذي أتى به الجديد.
لقد ذكرنا كيف كان التركيب الأول يعرض اسم مؤلف
لانعكاسات المرآة (بوصفه فرنسياً اعتنق الإسلام)، يعرضه لها بصفة ثنائية، بما أنه
كان يقحمه بين اسمين آخرين تلقي عليه تلك الانعكاسات، أي أن الاسم القصود لم يكن
في هذا التركيب ينتج مباشرة الإيحاءات السلبية، وإنما كان يتلقاها من الخارج
ويعكسها فقط.
وكان هذا جانب ضعف في الجهاز، بل إن ما يزيد في هذا
الضعف هو أن أجزاء التركيب كلها ظاهرة مرئية، لأنها كانت مكتوبة على صفحة من صفحات
(العروة الوثقى).
وبعبارة أخرى، إنه كان تركيباً فجاً بدائياً.
فكان إذن من الحكمة أن يفكر يوماً ما الهتمون بالصراع
الفكري، في تركيب جهاز جديد تكون أجزاؤه غير ظاهرة، وغير ظاهرة خاصة إلى الشخص
المقصود، حتى تؤدي المرآة مفعولها دون أن يشعر بذلك.
والتحسين المنشود الذي أتى به الجهاز الجديد، هو بالضبط
أنه لا يراه إلا من قدّر له، عن قصد أن يراه، أو بتعبير مصطلحنا: لا يراه إلا من
هو معد من أجله، ليعكس إلى نظره وشعوره خاصة تلك الإيحاءات التي من شأنها أن تجعله
في حالة (السلوك المشروط)، إزاء الأفكار المقصودة من وراء هذا كله.
فميزة التركيب الجديد هو أنه يمكنه أن يلفت النظر إلى
كاتب معين، دون أن يشعر هذا بأنه أصبح يشع إيحاءات، ويعكس ردود أفعال شرطية موجهة
ضد أفكاره ذاتها.
فهذه المرة لا يمكن لهذا المؤلف أن يتفطن للشبك الذي نصب
لأفكاره، لأنه نصب وراء ظهره، وبعيداً عن نظره، فهو عبارة عما يسمى (لعب صور الظل)،
أي تلك الصور التي يمكن للاعب ماهر أن يصورها من ظل يديه وأصابعه، بوصفها قصة
يراها الناظر على الحائط، ويمكن أن يزيد اللاعب الماهر في إعجاب ذلك الناظر، إذا
كان عنده الصوت المناسب مثل لاعب (جراجوز)، ليعقب على الصور التي تلقيها يداه
وأصابعه على الحائط بما يناسب من التعليقات.
وكل مهارة هذا المخرج تكون في أن يستمر لعبه حتى
النهاية، دون أن يشعر به الكاتب الذي أعد من أجل أفكاره هذا الجهاز، ولسنا نرى
مكاناً لوصف تفصيلي لهذا الجهاز، إذ أننا لا نرى مسوغاً لأن نقدم في هذا العرض
النظري، القصة من الصراع الفكري، كل تفاصيلها
الواقعية، فحسبنا أن نورد جمل القصة بالصورة التي تتيح لنا أن نعطي فكرة عن تركيب
الجهاز الجديد وعن كيفية تشغيله في ظروف معينة.
إن الاختصاصيين المهتمين بالصراع الفكري قرروا ألا يكون
عملهم قائماً، في هذه المرة على (دائرة أفكار) معينة، كما كان شأنهم في المرة
الأولى التي وصفناها.
إن مبدأ الجهاز الجديد من نوع آخر: إن كل كاتب له- قبل
دائرة أفكاره- دائرة تشمل حياته الشخصية في عقر بيته، ودائرة تضم علاقاته
الاجتماعية، خارج بيته، مهما يكن عددها.
وهذه الدوائر الثلاث ليست منفصلة الواحدة عن الأخرى، فقد
بينا في الفصل السابق كيف أن دوافع الحرمان التي تسلط على شخص كاتب، بأنها وهي
توجه إلى دائرته الشخصية، بصفته (كاتباً فرنسياً) مثلاً، تكون موجهة في الواقع إلى
دائرة أفكاره.
ولكننا بينا في الوقت نفسه، ضعف هذا التركيب، لأنه لا
يشمل الدائرة الشخصية لتنتج مباشرة دوافع الحرمان، وإنما هي تتلقاها من الخارج،
وتعكسها فحسب، على دائرة الأفكار التي تكون بهذا، لأن ما تتضمنه من أفكار قد وضع
في إضاءة غير مباشرة، أي تحت تأثير دوافع واردة من الخارج.
فالتحسين الذي أدخل على هذا التركيب هو أن يضعها في
إضاءة مباشرة، أي أن يضع دائرة أفكار مؤلف مقصود تحت تأثير دائرته الشخصية مباشرة.
والتصميم النظري لهذا الجهاز قد يكون على هذه الصورة:
[(دائرة الأفكار)
(دائرة الصلات الاجتماعية)
(الدائرة الشخصية)]ـ
فيمكننا الآن أن نفسر عمل الجهاز على ضوء هذه الصورة
النظرية.
إننا نرى أولاً، أن كل ما يصدر من إشعاع من الدائرة
الشخصية الخاصة بفرد معين، يصب حتماً بخيره أو بشره في دائرة أفكاره، لأنه ينعكس
عليها بمقتضى تداخل الدائرتين؛ بمعنى أن أي تعفن أخلاقي يحدث داخل الدائرة الشخصية
يصل إشعاعه فوراً- بصفته تعفناً- إلى دائرة الأفكار.
وبالآلية نفسها، فإن كل ما يحدث من خير أو شر، على
الدائرة الاجتماعية يحدث أثراً إلى الخارج، تجاه دائرة الأفكار وينعكس عليها
أيضاً.
ولكن يجب أن نلاحظ أن نصيب الإشعاع الذي يرد من الدائرة
الاجتماعية تجاه الداخل، ينعكس على الدائرة الشخصية ثم يعود منها، كإشعاع منعكس،
إلى دائرة الأفكار ليلقي عليها ما يحمل وما حمل من الدوافع الحرمانية. حتى إن
دائرة الأفكار تتلقى في النهاية، كل ما تشعه الدائرة الاجتماعية في الاتجاهين.
وبالتالي فإن كل ما يحدث بطريقة طبيعية أو صناعية،
تعفناً في الدائرة
Tidak ada komentar:
Posting Komentar